دولة مشتتة بين زهو انتخابي وتدهور اقتصادي

بقلم أحمد وسيم العيفة- 
تمرّ تونس بمرحلة اقتصادية ومالية صعبة جدا. وفي قلب هذا، نسير نحو إنتخابات برلمانية لنواب يبعثون وعودا غير قابلة للتحقيق، فإن نسينا استثماراتها منذ سنوات فدولتنا اليوم تجد صعوبة في استكمال نفقات العام. فأنّى لنا من مشاريع والدولة عاجزة عن تسيير شؤونها السنوية. 

لقد كانت المؤشرات واضحة منذ البداية أن إكمال نفقات الدولة لنهاية العام أمر صعب للغاية دون مساعدات مالية من صندوق النقد الدولي، تدافعت الأحداث عالميا بالحرب الروسية الأوكرانية فأدت إلى ارتفاع تلك النفقات بعد ارتفاع أسعار الواردات. 
في مواجهة التضخم المرتفع الذي وصل لثمانية بالمائة في الولايات المتحدة الأمريكية و تسعة بالمائة في الاتحاد الأوروبي ، رفعت البنوك المركزية سعر الفائدة الرئيسي، وتجسد ذلك من خلال رفع الاحتياطي الفيدرالي في الولايات المتحدة الأمريكية سعر الفائدة في نهاية جويلية بمقدار 75 نقطة ليصل 2.5٪ وقام البنك المركزي الأوروبي بنفس التمشي في منتصف سبتمبر للانتقال إلى 1.25٪ لعمليات إعادة التمويل. 
لقد أدى ارتفاع سعر الفائدة الأمريكية إلى جذب تدفقات رأس المال والطلب على الدولار ، مما أدى إلى ارتفاع قيمة الدولار إلى درجة أنه تجاوز التكافؤ مع اليورو. من المرجح أن يستمر هذا الوضع ، كما كان الحال خلال الفترة 2000-2002 عندما تجاوز الدولار 1 يورو لمدة 3 سنوات تقريبا. 
لذلك من الحكمة أن تأخذ الدول بعين الاعتبار هذا الواقع الجديد المتمثل في ارتفاع سعر الدولار عن اليورو ، الأمر الذي سيؤثر على قيمة المواد والطاقة وسيحابي مصدري هذه المنتجات. 
جاء الاتفاق مع صندوق النقد الدولي متأخرا وشحيحا، فتولدت مؤشرات أكثر خطورة وأصبحت الدولة في حاجة ماسة لمساعدة مالية أخرى من مؤسسات عالمية أو من دول صديقة. ويستمر التضخم في الارتفاع في تونس إثر تأثير أسعار المنتجات المستوردة ، رغم عدم تصحيح أسعار المحروقات أو أسعار منتجات الحبوب. وبهذا المعدل ، قد يصل إلى 9٪ في نهاية العام ويمكن أن يتجاوزه.. 
بالتوازي مع كل هذا، يواصل النشاط الاقتصادي سيره البطيء، وتواصل الاستثمارات تراجعها منذ سنة 2020، وكما هو الحال واصل العجر التجاري ارتفاعه رغم انتعاش الصادرات التونسية وارتفاعها بأكثر من 23 بالمائة من الواردات. 
ويولد هذا العجز توترات في ميزان المدفوعات لأن التحسن في الإيرادات المرتبطة بالسياحة والعاملين المقيمين بالخارج لم يعد كافيا لضمان عجز مقبول في الحساب الجاري بالنظر إلى موارد الاقتراض الخارجية المتاحة. 
وبالتالي ، فإن هذا قد يكون له تداعيات على الأصول بالعملات الأجنبية. يصل حجم مدخرات تونس من العملة الصعبة حوالي 24 مليار دينار وهو ما يمثل 114 يوما من الواردات والتي ينبغي أن تنخفض لتمويل الاحتياجات من العملات الأجنبية بحلول نهاية العام ، مع ما قد يترتب على ذلك من عواقب على قيمة الدينار إذا انخفضت الاحتياطيات إلى مستوى غير مقبول للمشغلين لتأمين مدفوعاتهم الدولية حيث تعتبر الهيئات المالية 90 يوما كحد لا يمكن النزول عنه. 
والمشكلة الحادة الأخرى المطروحة حاليا هي مقدرة الدولة على تمويل عجز الموازنة الذي تزيد فجوته بسبب دعم أسعار السلع والطاقة لأن الأسعار المحلية لا تتبع الأسعار العالمية وارتفاع الدولار.
فإن عجزنا عن القيام بإصلاحات كبرى في السابق فإننا اليوم نواجه الصعوبات اليومية لاستكمال العام ماليا واجتماعيا. بالرغم من أن كل مشكل سياسي هو مشكل اقتصادي دون حل، فإننا في هذه المرحلة أصبحت السياسة آخر مجال يمكن التركيز عليه بعد أن أصبحت المسألة مسألة تواصل الحياة اليومية للتونسي بصفة عادية أو لا. 
والسياسي الكفء هو الذي يفهم المؤشرات ويحس بالحالة المجتمعية داخل البلاد، كان نظام ما قبل الثورة نائما عند اندلاع الأوضاع في سيدي بوزيد وقرر اللجوء إلى الحلول الأمنية تماما كما فعل في الحوض المنجمي في 2008. لقد أصبحت حالة منعزلة لشاب في إحدى احياء سيدي بوزيد إلى حالة احتجاج عارم عصفت بنظام كان يظهر قويا وممتدا في المجتمع والمؤسسات. 
وإن حصلت آنذاك التغييرات بهدوء عن طريق شغور واستعمال فصل لتهيئة مرحلة جديدة فإن البلاد قد شهدت تغييرات جذرية بتغيير تام لقواعد اللعبة السياسية وبدستور جديد حسم في أمر تسيير السلطة التنفيذية مهيئا الطريق لبرلمان يشرع ويهيكل الحكومات ويقسمها. وليس دوما نجد الحلول الهادئة والسياسية للحفاظ على استقرار الدولة. 
إن الحكم الائتلافي يضعف الدول ويقهقر مستوياتها المالية والاقتصادية وهذه إحدى قواعد العلوم السياسية المتعارف عليها. فلم تفشل الأحزاب في تحسين الواقع الاقتصادي والاجتماعي فقط بل فشلت أيضا في حماية البرلمان الذي حكمت به طيلة سنوات. لم يكن الرئيس الجديد هو الذي حسم في الأمر بل الشارع هو الذي قام بذلك. ولم يكن 25 جويلية سوى تجسيدا لذلك، فكانت صفحة جديدة ولكنها ليست معصومة من المحاسبة الاقتصادية التي يعبر عنها الناس باحتجاجتهم في الشوارع. 
إن ما يجب أن نفهمه ويفهمه كل من يحكم البلد هو أن الشعب لا يهتم بالعناوين السياسية كاهتمامه بالأسعار التجارية، لا يهتم بالحريات قدر اهتمامه بالأمان والاستقرار، لا يهتم بإعطاء رأيه كاهتمامه بقرار يصدر لصالحه العام… ذلك هو قلب السياسة، وقلب السياسة ينبع من طمأنينة قلوب الناس. 
لئن كانت المرحلة حرجة فإن التماسك ممكن بتغيير السياسات الداخلية والمفاوضات الخارجية، بمصارحة الناس وتهييئتهم لكل قرار قد يكون موجعا في معيشتهم فهبوب الناس من حولك رهين إيمانهم ليس بصدقك فقط بل أيضا بمقدرتك على ترسيخ سياساتك الاقتصادية والاجتماعية في عقولهم.

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.