تونس والخط الثالث: أثر الغياب

بقلم: عبد الجليل معالي

الانسداد السياسي الحاصل اليوم في تونس، والذي يمكنُ تبين تجلّياته في أكثر من صعيد، ليس ناتجا فقط عن "صراع" إرادتين أو منظومتين تتبادلان القصف والاتهامات، بل هو أيضا وليد تخلّف أطراف سياسية يسارية واجتماعية عن أداء دورها المنوط بها عندما احتاجت اللحظة السياسية ذلك الدور.

هذا التخلف نراهُ ماثلا اليوم، بعمق، في ما يعتبره البعض غيابا مريعا للخط الثالث الذي يمكنه أن ينتجَ موقفا مختلفا عما يسودُ من تمترس جميع الفرقاء السياسيين كل في مواقعه:

-الرئيس قيس سعيد يرفض قطعيا عودة منظومة 24 جويلية.

-والمعارضة التي تقودها جبهة الخلاص ترفض بشكل حاسم كل ما ترتب عن 25 جويلية.

-الحزب الدستوري الحر يعادي 24 جويلية ويرفض 25 جويلية، ويقدمُ تصورا آخر يعتبر أن منظومة سعيّد سليلة منظومة الإخوان. 

في قلب هذا الانسداد لا يمكنُ رصد موقف موحد لليسار التونسي أولا لتنوع تشكيلاته، وثانيا لأننا نجد تياراته كامنة في كل هذه المواقف: يمكن أن نجد أصواتا وشخصيات يسارية تقاسم جبهة الخلاص مواقفها، ونجدُ يسارا آخر يرفضُ حزب عبير موسي (كما منظومة النظام القديم) لكنه يشتركُ معه في الموقف من سعيّد والإخوان، ثم نتبين وجودا يساريا في معسكر سعيّد. وبقدر ما عزز هذا الاصطفاف الحاد الحاجة إلى وجود خط ثالث ينتصر للمضامين الاقتصادية والاجتماعية، ويقدمُ بدائل وتصورات كفيلة بالخروج من الأزمة الراهنة، فإنه بيّن أيضا أن التيارات اليسارية مازالت تبدد اللحظات المناسبة التي تتوفر له في كل أزمة، ليتصدى لتنفيذ أفكاره.

كانت الثورة التونسية للعام 2011 نقطة التقاء فريدة بين الأفكار اليسارية والاجتماعية، وبين المضامين والشعارات التي نادت بها الثورة منذ انطلاقها في 17 ديسمبر 2010. وكانت لحظة 14 جانفي 2011 وما بعدها لحظة يسارية بامتياز، باعتبار الشعارات المنادية بمضامين الشغل والعدالة الاجتماعية والكرامة الوطنية هي من صميم أدبيات اليسار، إضافة إلى أن الشعارات المرفوعة في مختلف مدن البلاد لم تكن على الإطلاق شعارات إسلامية أو هوياتية، وكانت المظاهرات والمسيرات تنطلق من المعاهد والجامعات والمقرات النقابية الجهوية، ولم تنطلق المسيرات من المساجد إلا بعد 15 جانفي بعد تقدم حركة النهضة في الهندسة السياسية الجديدة.

تردَّدَ اليسار التونسي وبقية التيارات الاجتماعية في التقاط اللحظة، وتلعثمت البيانات بين قيادة الجموع الغاضبة، أو مسايرة التلفيق السياسي الذي كان يجري على قدم وساق بعنوان "الانتقال الديمقراطي" البراق وقتذاك. ومن ذلك التردد تسربت أحزاب وتيارات أخرى "نجحت" باقتدار في تمرير تسوية لا يجوع فيها الذئب ولا يشتكي فيها الراعي. 
كان ذلك التردد مؤذنا بحلول زمن موسوم بملمحين، الأول أن الأحزاب اليسارية التي تمتلك رصيدا هائلا من الأفكار الصالحة لتلك المرحلة سجلت نفسها، مبكرا، في عداد المعارضة، والثاني أن التدبير الاقتصادي التونسي حُكمَ عليه أن يحرم من أفكار كان يحتاجها بقوة، وعاد، مبكرا أيضا، إلى انتهاج منوال تنمية عقيم ثبُتَ فشله وثار عليه الناس.

فكان أن أسفرت نتائج انتخابات المجلس التأسيسي (23 أكتوبر 2011) عن ترنح يساري بين تمشّ إصلاحي يساير الهندسة السياسية الجديدة ويحاول امتطائها بالمشاركة في الحكم، وبين نزعة أكثر عمقا تساءل أسباب اندلاع 17 ديسمبر بشكل جذري. لم ينجح التمشي الأول وفشلت النزعة الثانية. 
تأخر الأطياف اليسارية والمدنية والديمقراطية، عن لعب دورها لم يكن ناتجا عن "زهد" سياسي أو سلبية فكرية، بل كان مترتبا أيضا عن تشرذمها وعدم قدرتها على التوحد على قاعدة الحد الأدنى السياسي، وكان ناتجا أيضا عن عدم توفق اليساريين في الالتحام مع الطبقات الشعبية في الأرياف والأحياء الشعبية بما تستبطنه من خصوصيات ثقافية واقتصادية واجتماعية. 

على ذلك ظلت التيارات اليسارية والاجتماعية في عزلة عن تطلعات المناطق المهمشة ومطالبها، وواظبت على تفويت الفرص التي تسعفها بها الأحداث السياسية المتواترة. وكان استشهاد شكري بلعيد في 6 فيفري 2013، ومحمد البراهمي في 25 جويلية من العام نفسه، ليوفر فرصة أخرى لتثبيت مقولاته والانتصار لانتظارات الناس الاقتصادية والاجتماعية، لكنه ظل وفيا لكراساته القديمة دون تحويلها إلى منجز سياسي. تاه "الرفاق" في خلافات التكتيك والاستراتيجيا، وسمح ذلك التيه لمجموعات أخرى بالتقدم في فراغ غفل اليساريون عن ملئه، فظهرت العريضة الشعبية وروابط حماية الثورة وائتلاف الكرامة وغيرها من النتوءات التي تزدهر في الأزمة. 

وعلى ذلك أيضا كانت معارضة الأحزاب اليسارية والمدنية لحركة النهضة، منذ انتخابات العام 2014، موسومة بالسلبية والانتظارية. إلى أن جاء حدث 25 جويلية 2021، ووضع تلك الأحزاب في موسم تشتت جديد، كان هذه المرة على خلفية الموقف من ذلك الحدث: المساندة أو المعارضة، دون تقديم مقاربات قابلة للتطبيق لإخراج البلاد من أزمتها.

الأزمة الحاصلة اليوم بين قيس سعيد وخصومه، ليست أزمة صراع إرادات متناقضة، بل هي أيضا أزمة غياب الخط الثالث الذي يمكنه أن يبتكر حلولا خلاقة لأزمة البلاد، دون أن يكون طرفا من أطراف هذا الانسداد. 
ولعل الدور الذي لعبه الاتحاد العام التونسي للشغل في العام 2013، ويواصل لعبه اليوم من خلال اجتراحه لفكرة مبادرة الإنقاذ، يعبر أولا عن ثقل تاريخي وشعبي للمنظمة الشغيلة التي تنهل من مدونة فكرية يسارية، ويعكسُ ثانيا غياب الطرف السياسي الديمقراطي القوي الذي يمكنه أن يضطلع بدور الخط الثالث. 

كان فشل اليسار التونسي في فرض مقولاته الاقتصادية والاجتماعية وتبعا لذلك في الوصول إلى السلطة، ناتج عن تضافر عوامل فكرية واجتماعية وتاريخية متداخلة، لكنه كان "جريمة" في حق البلاد وفي حق تاريخ اليسار نفسه، وإذ تمر تونس اليوم بأزمة خانقة على جميع الأصعدة، فإن ذلك مترتب أيضا، في بعض ملامحه، عن غياب خط ثالث يوفق بين القطع مع المنظومات القديمة، وبين رفض الارتجال السياسي الراهن، وبين ابتكار حلول اقتصادية واجتماعية لا تعيد إنتاج مناويل تنمية قديمة وتنظرُ نتائج مغايرة.

 

 

* عبد الجليل معالي: كاتب ومحلل سياسي تونسي

 

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.