المخرج عبد الله شامخ: الدولة قدمت استقالتها من الثقافة .. وسينما المخبر مناعة ضد الانحراف والتطرّف

يسرى الشيخاوي-
في الوقت الذي ترزح فيه الثقافة والفنون في تونس تحت عبء غياب المشاريع والرؤى الاستراتيجية للدولة، ينحت البعض في الصخر لتوغل أوتاد مشروعه الثقافي كل ثنايا المجتمع وليقطع الطريق على اليأس الذي يعشش في كل تفاصيل البلد.
من بين المؤمنين بقدرة الثقافة على التغيير والمتشبثين بحلمهم رغم العراقيل والسائرين في دروب يعبّدونها بإصرارهم وعزيمتهم المخرج السينمائي عبد الله الشامخ الذي سكب من روحه في مشروع سينما المخبر، مشروع يناصر لا مركزية الممارسة الفنّية عبر خلق بنية تحتية ثقافية شبابية في كامل تراب الجمهورية.
انطلاقة المشروع، كانت من الجنوب الشرقي، في انسجام مع خلفية ترتكز على نقص نوادي السينما في دور الثقافة خاصة على مستوى الشريط الحدودي و الأحياء الشعبية، لتستمر في مرحلة أخرى في الوسط الغربي بالقصرين وسيدي بوزيد.
وسينما المخبر مشروع في شكل ورشات تعليمية وتطبيقية في الإنتاج السينمائي الموجه لمربي وتلاميذ المدارس الإعدادية والمعاهد الثانوية في المناطق الحدودية التي يكاد ينعدم فيها النشاط السينمائي، وهو قائم على مواضيع السينما والتربية والإبداع والدور التربوي والتعليمي للصورة وثقافة التلقّي.
للحديث عن هذا المشروع وعن وضع المثقف في تونس في ظل الجائحة وعن أعماله السينمائية التي يلاحق من خلالها الاختلاف والتفرّد، التقت حقائق أون لاين بالمخرج السينمائي عبد الله الشامخ وكان معه الحوار التالي: 
ماالذي دفع عبد الله شامخ إلى بعث مشروع سينما المخبر دون غيره؟
في الواقع، لازمني سؤال منذ سنة تسعة وألفين وأنا أزاول المرحلة الثالثة من العلوم الثقافي عن وجود مواد المسرح والفنون التشكيلية والموسيقى في المعاهد والإعداديات في الوقت الذي تغيب فيه السينما والحال أننا في عصر الصورة والرقمي والتكنولوجيات الجديدة التي أتاحت للمواطن فرصة التوثيق.
والسؤال كان فاتحة مشروع مخبر السينما الذي يتماهى فيه البيداغوجي والثقافي من خلال تبليغ المعلومة عبر الصورة، فبعد دراسة صغيرة أجريتها في فترة البحث تبيّن أن السينما في العالم في المتحضر جزء من منظومة تربوية، ومن خلال  هذا المشروع نخلق مخابر في الإعداديات والمعاهد ونكوّن أساتذة وتلاميذ ليستمر.
انطلاقة المشروع كانت في الجنوب الشرقي، كيف كانت التجربة في البيئة التي صافحت فيها السينما للمرة الأولى؟
طفولتي قضيتها هناك واكتشفت السينما في أواخر الثمانينات على حائط المدرسة وظلت تلك الصورة راسخة في ذهني، والتجربة انطلقت من هناك من الشريط الحدودي في اتساق مع أهداف المشروع.
وفي إطار اتفاقية مع وزارتي التربية والثقافة وبالتنسيق مع المندوبيات الجهوية للتربية والثقافة نجح المشروع في تكوين عشرين أستاذا وأربعين تلميذا وإنتاج ستة أفلام وثائقية اختار التلاميذ والأساتذة مواضيعها انطلاقا من محيطهم، مواضيع  تنوعت بين العنصرية والعنف والتراث وحماية المحيط ووضعية اللاجئين.
واختيار مواضيع الأفلام الوثائقية ينم عن وعي  التلاميذ والأساتذ بقضايا بيئتهم، وتجربة سينما المخبر في الجنوب الشرقي أثبت أن الخطأ في المثقّف وليس في المواطن المتقبّل.
ما المقصود من أن الخطأ يكمن في المثقّف؟
المثقفون اليوم قدّموا استقالة من وظيفتهم الاجتماعية، ومن خلال مشروع سينما المخبر حاولنا ان نقترب أكثر من المواطنين صحبة عدد من المخرجين من بينهم رضا التليلي ومراد المحرزي ومهدي هميلي وغيرهم.
والمثقف لا يمكن أن يعيش في برج عاجي بعيدا عن المجتمع فهو ليس كائنا هلامي بل هو امتداد للمهمشين ولديه هموم اقتصادية واجتماعية وهو عرضة للجوع والفقر، بل إنه يصرف من أحاسيسه وأفكاره ليغير واقعه.
ماهو الأثر الذي تركه هذا المشروع القائم على فلسفة التغيير في تجربة الجنوب الشرقي؟
عبر سينما المخبر تغيرت علاقة التلميذ بالأستاذ وتحوّلت من علاقة هرمية إلى أخرى أفقية يجلس فيها الإثنان إلى نفس الطاولة ويتقبلان نفس المعلومات، والمشروع أيضا غيّر علاقة التلميذ بعائلته.
التجربة أثبتت أن المشروع قادر على التغيير، ونحن ماضون في فيه بهدف تركيز مائة وعشرين مخبرا في الجمهورية التونسية لتكون هذه المخبار السينمائية نواة لتأسيس مهرجان في الوسط المدرسي وتسهم في إكساب التلاميذ معارف أكثر عن مجال السينما ليختارها بعد إنهاء دراسته الثانوية عن وعي.
المشروع ينطوي أيضا على جانب بيداغوجيا، عمليّا فيما يتمثّل هذا الجانب؟
يمكن للأساتذة ان يعرضوا أفلاما وثائقيا ذات أبعاد تعليمية سواء في المواد الادبية أو العلمية، ومخبر السينما يهدف إلى تغيير نمذ التدريس إذ مازل التعامل مع المعلومة كلاسيكيا في الوقت الذي تغيرت فيه الذهنية في علاقة بالصورة ولم تعد قائمة على الاستهلاك.
ومخابر السينما تقدم طرحا بيداغوجيا هدفه تغيير السياسات التعليمية ومناهج التكوين نحو الصورة والسبورة الذكية و تخلق متلقّيا نوعيا قادرا على تأويل الصورة وتحليلها وتحصّنه من التلوث البصري الذي يتسرب اليها من التلفزات ومن وسائل التواصل الاجتماع ويجعله قادرا على اختيار المادة التي يشاهدها.
هل يهدف المشروع لخلق مادة سينمائية مستقلة وانتداب أساتذة؟
عندما نتحدّث عن مائة وعشرين مخبرا للسينما في كامل تراب الجمهورية نحن هيأنا أرضية لبعث مادة مستقلة وانتداب أساتذة بعد تكوينهم ولما لا بعث باكالوريا فنون.
والمشروع ذو الميزانية البسيطة جدا يستمد استمراريته من ايماننا بضرورة زرع الثقافة في المناطق الحدودية التي تعاني تصحرا وترزح تحت عبء الإرهاب والتهريب وبعد الجنوب الشرقي ستكون الرحلة في الوسط الغربي في انتظار طرح سياسة ثقافية جديدة تؤمن بدور الثقافة والفنون في التغيير ودور الصورة في تشكيل وعي الفرد.
هل نحن اليوم أمام "حرب" الصورة؟
نحن اليوم نتحدّث عن استعمار ثقافي تركي من خلال الأعمال التركية، المعركة داخل الصورة وبعض الشعوب اليوم لا تفرّق بين " السورة" والصورة"، ومن يرسم كاريكاتورا عرضة للموت هو يملك آليات الإبداع والآخر لا يملك إلا آليات العنف.
الصورة مهمة ولا بد للمجتمع من التصالح مع صورته، ولكن بعض الأفراد لا ينقدون ذواتهم حينما تنعكس صورهم في المرآة ويغذون العقد ومركبات النص، كما أن الإعلام همّش المجتمع من خلال المادة الإعلامية التي تخلو من مشروع – مع احترام من يطرحون مشروعا-.
والفن يخاطب الوجدان والعقل على حد سواء، فبعض الأفكار التي تمرر عن طريق فيلم أو عمل فني قد تكون أخطر من أي شيء آخر ذلك أن الفيلم يكسر حدود الجغرافيا، والواقع في تونس تجاوز الخيال والصور المتواترة سوريالية جدّا حدّ تجاوز السينما.
أين الدّولة من هذا الطرح؟
نظام التفاهة باق ويتمدّد وهذه  الدولة لا تحمل مشروعا ثقافيا، وباستثناء وزارء الثقافة محمود المسعدي والشاذلي القليبي والبشير بن سلامة الطين كانوا حاملين لمشروع ثقافي وعبد الرؤوف الباسطي الذي كان قريبا من المثقفين دخلت الثقافة في متاهة الارتجال.
تونس كانت فضاء لتصوير أكبر الأفلام العالمية واليوم لا تدرس فيها السينما التي تعد أقدم من الديمقراطية ولا تستثمر فيها الدولة الفنون لتحول بين الإنسان والارهاب من خلال تشبعه بالحس الفني فنفس اليد التي لا تتعلم الرسم يمكن أن تتعلم الغط على الزناد والذبح.
كيف يغطي مخبر السينما غياب مشروع ثقافي للدولة؟
حينما يكون مشروع مخبر السينما حوالي مائة وعشرين ألف تلميذ عاشق للسينما لايمكن الحديث عن مستقبل مخيف إذ تحميه المعارف والعلومات السينمائية التي اكتسبها من الارتماء في حضن الإرهاب والترهيب ويخلق مناعة لجيل لا ينساق وراء الانحراف.
ومن خلال تجربة سينما المخبر في الذهيبة تبدو فكرة الدولة غائبة تماما، والمنظومة السياسية في تونس تهدف لأن يكون المواطن مستهلكا لا يفكّر فنحن في مجتمع اعتدنا فيه على الوقوف في طوابير من أجل الخبز لا من أجل السينما وعلى التزاحم على الفضاءات التجارية عوض الإقبال بكثافة على مكاتب الاقتراع.
اليوم هناك تطبيع مع الموت وتشويه لفكرته وسط عدم قدرة التونسي على التفريق بين أحلامه وحقوقه بل إنهم صادروا حقه في الحلم، ومن هذا المنطلق يستمدّ المشروع ديمومته إذ يسعى إلى زرع نوع من الحماية الفكرية في كل زوايا الجمهورية من خلال تركيز خلايا ثقافية قادرة على تجاوز الواقع في ظل صورة الموت في بالوعة وتحت أنقاض كشك.
وسط غياب مشروع ثقافي للدولة أين يقف المثقّف اليوم؟
كما يقول شكري بلعيد رحمه الله نحن في مفترق طرق، أناس يشدون إلى الخلف وآخرون يصرون على على المضي إلى الأمام، والفئة الثانية عزلوها وتركوا الحكم في يد الفئة الأولى.
وأنا شخصيا لم استلم وواصلت العمل على المشروع في الوقت الذي لا تؤمن فيه الدولة بالثقافة، فوزارة الثقافة هي الأخيرة في تعيين الوزراء وهي الأولى في الإقالات ورئيس الحكومة يحصرها في "التفرهيد" ولم يلتق إلى اليوم مع النخب الثقافية.
وسط هذا المشهد، الباقي هو الخلق والإبداع من موسيقى وسينما ومسرح وشعر ومن خبر ثقافته وتشبع بها من الصعب اختراقه وهو ما نعمل عليه في مشروعنا.
هل الثورة الثقافية باتت ضرورية اليوم؟ 
كنت انتمي إلى المعارضة وإلى الحركة الطلابية، اليوم لا أقارن نفسي بالمناضلين ولكن حاولت أن يكون لي موقف ولكن ما حصل بعد سنة أحد عشر وألفين سرقة، لقد باعوا للشعب صورة خاطئة وكل ما في الأمر أن المنظومة السيسية تغيرت ولكن العقلية السياسية لم تتغير.
واليوم نحن مدفوعون نحو حروب وهمية لا تعنينا، ومادموا يرون يختزلون الثقافة في "التفرهيد" أنا مع إلغاء هذه الوزارة فأكثر الدول المنتجة للإبداع لا وزارة للثقافة فيها، وماجدوى وزارة بلا استراتيجية.
هل تعتقد ان هناك عداء للثقافة؟
المسؤولون لا يحبون الثقافة وأن تحصل على رخصة لفتح مقهى أسهل من الحصول على إذن بتحويل مقر مهجور إلى فضاء ثقافي، ونحن اليوم نعيش على وقع كذبة كبيرة هي أن المجتمع لا يتغير، بلا هو يتغير بسلاسة في ظل وجود مشروع.
لابد من الوعي بأن المشاريع الثقافية هي التي تبني المجتمعات الجديدة وتغيّرها، واللامركزية الثقافية ليست مجرّد شعار  يزين الخطابات بل ممارسة يجب أن تكون حاضرة على أرض الواقع ومن جهتي لن أستسلم وسأواصل تجسيد فكرة مشروعي حتى تأسيس مخابر للسينما في كامل الجمهورية.
بالتوازي مع التأسيس لمخابر السينما تخلق في كل مرة عملا سينمائيا تترجم فيه هواجسك وتصوراتك، ماهي أعمالك الأخيرة؟
من بين الأعمال السينمائية "أحمد التليلي ذاكرة الديمقراطية" النور وقد توقفت العروض بفعل كورونا، و"فولاذ" الذي جمعني بالمخرج والمنتج مهدي الهميلي.
وخضت تجربة سينمائية في شمال افريقيا غيرت معها سياق الكاميرا إلى جنوب القارة الافريقية وكان فيلم "الغابة المقدسة" الذي يحكي عن العولمة في علاقتها بالشعوب، الفيلم لم يعرض بعد وهو ينطوي على طرح اثنوغرافي وأنثروبولوجي جديد.
هل تخاطب في فيلم "الغابة المقدّسة" هاجس التشبّث بالجذور؟
حينما تتحدّث عن ذاتك تعرف كيف تسير نحو الآخر وتحدّثه عن ثقافتك وأصولك، أنا شمال افريقي ومالي أقرب إلى قلبي من السعودية وتربطني بها ثقافات عديدة، والسينما تتعامل بالأساسا مع الإنسان لا الجغرافيا.
ماذا عن العلاقة بين الفني والسياسي في السينما؟
الثقافة والفكر يوحدّان الشعوب، والفيلم يسافر ويجوب العالم ليعرّف بالثقافة التونسية وهو أهم من السياسة والسياحة وعبر التاريخ التجارب الثقافية قادتها الافكار لم تقدها السياسة.
والمثقف الحق لا يحتكم إلى أجندا انتهازية وليس نفعيا، المثقف يرحل وتبقى أعماله خالدة أما السياسي فيتحالف مع الشيطان من أجل مشروعه.
بعض الاعمال السينمائية تستوجب الاستعانة بالأرشيف، ما رأيك في التعاطي مع الأرشيف في تونس؟
اقترحت في وقت سابق بعث صندوق للذاكرة الوطنية في مجال الثقافة لدعم المشاريع ذات العلاقة بالذاكرة الوطنية، فتاريخنا اليوم مغمور والارشيف تغزوه الأتربة.
وخلال تصوير فيلم أحمد التليلي ذاكرة الديمقراطية لم أجد تسجيلا صوتيا له، وهو ما يطرح عديد الإشكاليات في علاقة بالأرشيف.
في ظل الجائحة كيف ترى وضعية المثّقف والفنان اليوم؟
وضعية المثقف في تونس لا تختلف عن وضعية المواطن العادي ، فهو مواطن بالأساس ولا تتوفر له آليات الحماية ليقوم بدوره كمبدع.
المثقف اليوم مهمش داخل دولة اللامثقّف والثقافة آخر اهتمامات المنظومة السياسية فالمثقف يحمل مشروعا والدولة قدّمت استقالتها من الثقافة.
 

 

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.