العدالة الانتقالية: محاولة في فكّ الالتباس بين العدالة والذاكرة والتاريخ

 

وتونس مقبلة على عروض متلفزة وطنيا وعالميا لشهادات حول الإنتهاكات التي تعرض لها عشرات آلاف التونسيين منذ خمسينات القرن الماضي، أردت مشاركة القراء بعض الأفكار حول العدالة الإنتقالية مستوحاة من عمل بحثي مطوّل يصدر قريبا. وفي هذا المقال القصير أردت فقط الإشارة الى مسائل نظرية ذات تبِعات عملية وحتى مستعجلة. وأتبع ذلك بملاحظات حول الحالة التونسية.

1.         العدالة الانتقالية والتاريخ

 غالبا ما يقع الخلط بين المسألتين، لا عن قصد وإنما عن عدم تمكن من أدوات التحليل وعن طغيان السياسي من الأمور على فهمنا للواقع والوقائع. فبين العدالة الانتقالية والذاكرة علاقة ملتبسة اشد الالتباس. ومَرَد الإتباس أمران لهما علاقة بالتاريخ ومفهوم الزمن. فالعدالة الانتقالية، في جوهرها، محاولة للقطع مع الماضي والتحكم فيه، وذلك بموقَعَته والفعل فيه بالمراجعة والتصحيح. ويأخذ هذا الفعل أشكالا عملية منها الإعتراف والمحاسبة والتعويض والمصالحة وتفعيل عملية التذكّر وغيرها.  وهي جميعا مهمة، بل ضرورية من أجل بناء مستقبل مغايِر للماضي الذي وقع القطع معه أوالثورة عليه.  ولا يخفى ما لكلّ هذا من علاقة وطيدة بالذاكرة. ولكن، وعلى مستوى جوهري، لا يمكن للعدالة الانتقالية أن تمحوَ الماضي أو أن تغيّره. هذا من ناحية، أما من ناحية أخرى فالعدالة الانتقالية، باعتبارها انتقالية، يحكمها شرط أساسي ألا وهو الزمن. فهي محدَّدة بسقف زمني، قد يطول وقد يقصر، ولكنه محدود لا محالة. وإلا فلا معني للتسمية ولا للعملية برِمّتها إن هي تحولت إلى وضع دائم. ونلاحظ، على سبيل المثال، أنّ عمل هيئة الحقيقة والكرامة في تونس، حُدّد بخمس سنوات على أقصى تقدير.

2.         بالإضافة إلى تحديد الاشتغال على الفعل في الذاكرة بزمن محدَّد، لا يخفى أنّ العدالة الانتقالية ترتبط بالقانون في جذورها كما في عملها، وهو أمر مهمّ يُضاف إلى محدوديّة المفهوم،إذ يرتبط مفهوم العدالة بالجريمة والعقاب وبقدرة القانون على إحلال العدالة، وهو طبعا فهم محدود للعدالة من جهة وتقديس مبالَغ فيه للقانون من جهة ثانية. فالعقاب لايكفي وحده لخلق مجتمع سليم في حين أنّالتعويض المادي والمعنوي لا يكفي لمحو الضرر، في حالات التعذيب مثلا.  أما عن المصادر القانونية للعدالة الإنتقالية، فالمعروفأنها عموما من إنتاج الأنظمة الليبرالية الغربية التي تضع مفهوم سيادة القانون في أعلى هرم مؤشرات الحرية والعدالة في المجتمع. فضلا عن ذلك، ترتبط العدالة الإنتقالية بالفرد والذات أكثر منها بالجماعة، فالتعويض فردي وكذلك الأمر بالنسبة للإعتراف والمصالحة وغيرها. والخلاصة أنّ العدالة الانتقالية عموما تُحيل على المؤقّت والذاتي والعيْني والقانوني والرمزي، حتى حين تهتمّ بما يسمى بالتذكّر وتنشيط الذاكرة عبر تغيير تسميات الشوارع وإقامة النُّصب التذكارية وغيرها من الأعمال الرمزية. 

3.         اما الذاكرة فترتبط بالدائم والغير ملموس، على مستوى الفرد وعلى مستوى الجماعة. فلايوجد تعويض مادي أو عقاب عادل قادر على مَحْو ذاكرة الجسد الذي وقع تعذيبه أو الكرامة التي اغتصبت. أما بالنسبة للمجموعة فلا يمكن التعويض عمّا وسمه المؤرخ المرحوم أحمد جدي بالألم الجماعي الذي أدّى الى عمل جماعي يمكن أن نسميه ثورة أو انتفاضة جماعية. لا يمكن التعويض عن هذا الألم الجماعي بعقاب جماعي طبعا، ولا بحركة رمزية، بل لا يمكن مَحْوُه أصلا. فالذاكرة ليست مؤقتة ولا تسعى إلى مَحو الماضي أو إلى النسيان، بل هي ما يبقى بعد النسيان. ومن هنا يمكن أن نتناول مسألة الأرشيف إن أردنا. فهو، بالنظر إلى ما سبق ذكره، أساسي بالنسبة للعدالة الإنتقالية وبالنسبة للتاريخ، ولا ضرورة إلى التفصيل في هذا الأمر المعروف.

4.         فالعدالة الإنتقالية لا تكتب التاريخ وإنّما تتصارع مع الماضي وتهيئ إلى المستقبل بآليات محدّدة وفي سقف زمني محدود. وهي بذلك تتدخل في صياغة وتكوين الذاكرة الجمعية، باعتبار هذه الأخيرة من مشمولات المستقبل. بينما يُكتب التاريخ باعتماد آليّات مختلفة ودون اعتبار سقف زمني.  وبهذا المعنى يمكن القول إنّ العدالة الإنتقالية تسعى إلى النسيان بينما يشتغل التاريخ على التذكّر. ولعل أحسن ما في العدالة الانتقالية أنّها مؤقتة، وتلك قوّتها وفاعليتها. فهي تنبني على نوع من اليقين الذي يرتبط بمفهوم القانون وفعله. أما التاريخ ، الشخصي كما الوطني، فهو دائم، ومتعدِّد ومَحَلّ جدل وتأويل.

5.         الحالة التونسية

لا يخفى أنّ العدالة الإنتقالية المنصوص عليها في الدستور التونسي الجديد والتي أصبحت هيئة الحقيقة والكرامة أهمّ آلياتها، تعير اهتماما خاصا لمسألة الذاكرة والتذكّر ومَشهدية الحسم العادل مع الماضي. ولعلّ أهمّ الإجراءات الملموسة والمرئية لإعادة ترتيب الذاكرة يتمثّل في إعادة تسمية وترتيب الفضاء العام والعمومي، ومن ذلك النصُب التذكارية وتسمية الشوارع والساحات العامة وغيره مماّ قامت به شعوب مرّت بتغييرات حاسمة وحاولت إعادة هيكلة ذاكرتها. 

أما في الحالة التونسية فقد أخذت هذه المسألة مسارات غلب عليها الإرتجال وموازين القوى، ولعلّنا جميعا نتكذّر فسخ كلّ أثر لاعتصامات القصبة من قبل الوزير الأوّل آنذاك، الباجي قايد السبسي، كما نتذكّر إعادة دهن أقبية وزارة الداخلية من طرف "الحقوقي" الأزهر العكرمي. ونتذكّر تسمية ساحة 14 جانفي وبعض الشوارع والساحات بمبادرات فردية أو من قبل المجتمع المدني.

  أمّا على المستوى الدستوري فنجد تفصيل ذلك في ما تنصّ عليه الأحكام الإنتقالية المرتّبة للعدالة الإنتقالية والقانون الأساسي عدد 53 لسنة 2013 الذي يفصّل الأمر ويحدّد مهامّ هيأة الحيقيقة والكرامة.من المهمّ التذكير بأنّ الفترة الزمنية التي تشملها المراجعة والمحاسبة تبدأ من 1 جويلية 1955، أي أنّها تشمل كل فترة دولة الإستقلال ورموزها. ولا رمز لها أبرز من الحبيب بورقيبة. وهو،بما له، جزء من الذاكرة الجمعية المضيئة، ووجب الإعتراف العام بذلك. ولكنّه من ناحية أخرى جزء من الذاكرة الجمعية المظلمة ولابدّ من الاعتراف العام بذلك أيضا. ولهذا وذاك جاز ما لا يجوز أخلاقيا وقانونيا، حسب رأيي، فأُعيد تمثال الحبيب بورقيبة إلى مكانه السابق في شارع لايزال يحمل اسمه، ولا اعتراض لي على الإبقاء على التسمية، ولكنّه شارع تجاوز "الزعيم" وأسقطه رمزيا وتحوّل إلى أيقونة محلية وعالمية لهذا التجاوز الذي شكّل أّوّل ثورات القرن الواحد والعشرين. إنّ إعادة تمثال من قال فيه محمّد الصغير أولاد أحمد، وصحّ قوله تاريخيا، "لنا المدى وله الصديد"، يعيدنا جميعا إلى الصديد بقرار استعلائي مناف لمبادئ العدالة الإنتقالية التي نريد إرساءها.

أما على المستوى المدني المستقل، فقد وقعت محاولات عديدة لتحويل مسألة الانتهاكات إلى شأن وطني قبل وعبر مَأْسَسة هيئة الحقيقة والكرامة.ويهمني هنا التذكير بالعمل الجبار الذي أنجزته مؤسسة التميمي ولا تزال في توثيق الانتهاكات منذ بداية 2011  والذي بلغ آلاف الصفحات ومئات الـسجيلات للمئات ممّن ظُلموا وقُمعوا من قبل السلطات التونسية المتعاقبة. وقد تمّ هذا التوثيق بعيدا عن عيون الإعلام والإثارة، وربما بتجاهل مقصود منها. فكان حقا عملا تاريخيا نوعيّا.

والآن وقد بدأت تونس في تحويل الجوانب المظلمة من ذاكرتها إلى مشهد عام يحضى بتغطية إعلامية سمعية وبصرية، محلية ودولية، ضخمة، فأنا أنظر إلى الحدث بتوجّس وأمل. يكمن الأمل في تحوُّل الحدث إلى لحظة تذكُّر جماعي لأهمية وتاريخية الثورة التونسية، ويصدر التوجّس عن موقف عقلاني ونقدي يخشى تحوُّل الحدث إلى مادة إثارة وحتى إلى تجارة.

 

 

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.