محمد الشرفي.. رحلة في مسيرة مناضل تنويري كفّره الإسلاميون!

رحـمة الباهي-

“الكفاح من أجل الأنوار” هي عبارة قد تختصر مسيرة وزير التربية الراحل محمد الشرفي، الرجل الذي آمن بالحرية الإنسانية وبحقوق الإنسان وناضل من أجلها بطرق متعددة وفي أزمنة مختلفة دون أن يحيد عنها رغم كلّ الصعوبات التي حفّت بطريقه، ولكن لا يمكن في الحقيقة لهذه العبارة أن تفيه حقه.

محمد الشرفي، ابن عائلة محافظة أصيلة ولاية صفاقس(من مواليد 1936)، تلقى منذ نعومة أظافره تعليماً تقليدياً على يدي والده الذي كان إماماً محترماً ومعروفاً بالجهة. إلا ان تعليمه لم يكن تقليدياً فحسب، فسرعان ما اقتنع والده بإدخاله لتتبع النهج التعليمي الحديث آنذاك، ليتحصّل بذلك محمد الشرفي على شهادة الباكالوريا بصفاقس وينتقل إلى تونس العاصمة أين تحصّل على إجازة في الحقوق قبل أن يسافر إلى باريس لإنهاء دراساته العليا ويحصل على دكتوراه في الحقوق.

اهتمام مبكر بالسياسة

ولئن مرّت سنوات الدراسة بسلاسة بالنسبة لمحمد الشرفي، فإنها لم تحل دون مشاركته وانغماسه في الحياة السياسية والشأن العام. انغماس بدأ في سنّ جدّ مبكرة، حيث طالما استمع إلى محادثات “الكبار” من أفراد عائلته الذين كانوا يتناقشون في مواضيع سياسية طالت الصعيدين الوطني والإقليمي.

وواصل محمد الشرفي اهتمامه بالسياسة بعد دخوله في المدرسة حيث انه كان يحضر اجتماعات الحزب الدستوري الجديد وكانت له مساهمات في الحركة الوطنية التي أدت في نهاية المطاف إلى تحرير تونس من المستعمر الفرنسي. كما كان عضواً فاعلاً في الاتحاد العام لطلبة تونس، بل إنه شغل منصب الأمين العام للاتحاد بباريس وتولىّ خلال تلك الفترة إنشاء صحيفة خاصة بالطلبة حملت اسم “الاتحاد”.

وعلى الرغم من ان اهتمامه بالشأن العام وبالسياسة لم يتوقف يوماً، إلا ان محمد الشرفي لم يستطع ان “يتحزّب”داخل بوتقة ضيّقة، أو بالأحرى، لم يجد نفسه والقيم والمبادئ التي يؤمن بها وبشكل خاص الديمقراطية، في أي حزب، ففي بداياته كان دستورياً قبل ان يقوم بمراجعات نقدية عندما طغت الممارسات الاستبدادية على الحزب الذي قاد معركة التحرّر من ربقة الاستعمار المباشر. ومن ثمّ، عن طريق الصدفة أو الخطإ، وجد انه انضمّ إلى مجموعة من “التروتسكيين”، إلا أنه لم يبق معهم إلا بضعة أشهر بعد ان اكتشف انه هرب من دكتاتورية الزعيم المنقذ إلى الدكتاتورية البروليتارية.

وإثر هاتين المحاولتين الفاشلتين بالنسبة له، قام محمد الشرفي، بمعيّة عدد من رفاقه المناضلين، بتأسيس “برسبكتيف”، كحركة تقدمية ديمقراطية معارضة . وعمل الشرفي على إنجاح هذا الحركة وقدّم الكثير حتى أضحت “برسبكتيف” قوة معارضة مؤثرة داخل تونس وخارجها. ورفض الشرفي ان تتبنى حركته  التوجه اليساري  العدمي الذي كان سيؤدي إلى الدكتاتورية تحت شعارات الدفاع عن الطبقة العاملة المهمشة. ورفض أيضاً ان تصطبغ باليمين المحافظ الذي لم ولن يكون يوماً ما تقدمياً. رفض محمد الشرفي تبني أي توجه وكان هدفه ان يكون مدافعاً عن الحقوق والحريات والديمقراطية.

برسبكتيف.. ورفض الإيديولوجيات المحنّطة

إلا انه ما إن غاب الشرفي عن “برسبكتيف” لبضعة أشهر تفرّغ خلالها لإنهاء الدكتوراه،حتّى فوجئ لدى عودته بتغيّر حصل داخل الحركة حيث سيطر عليها عدد ممن كانوا رفاقه وجعلوها ذات طابع ومنزع “ماوي” يمكن وصفه بالطوباوي. الأمر الذي دفعه في نهاية المطاف إلى الاستقالة من “برسبكتيف” وهو يحمل داخله خيبة كبيرة، إلا أنه لم يحل دون دخوله السجن سنة 1968 والحكم عليه بسنتين سجنا، لا لسبب الا لأنه لم يقل ما من شأنه ان يورّط رفاقه في برسبكتيف.

إلا أنه في السجن فوجئ بالمعاملة السيئة التي تلقاها ممن كانوا يوماً ما رفاقه، معاملة بدأت بإهانات مختلفة ووصلت إلى عنف لفظي لم يعد يتحمّله، مما حمله بعد عدد من الضغوطات إلى الموافقة على إرسال رسالة إلى رئيس الجمهورية مقابل إطلاق سراحه وذلك في غرة جوان 1969.

وعلى إثر ما حصل، قرّر محمد الشرفي الابتعاد عن العمل السياسي الضيّق تماماً، دون ان يتخلى في الآن ذاته عن قيمة النضال المدني، فانخرط في الاتحاد العام التونسي للشغل وكان من بين الأعضاء المؤسسين لنقابة أساتذة التعليم العالي.

فهو اختار ان يواصل الدفاع عن المبادئ والقيم التي طالما آمن بها ولكن في أطر بعيدة عن الأحزاب وما تحمله من توجهات ستفرض عليه هو، الرجل المؤمن بحريته والرافض لصبغ أفكاره بأي إيديولوجيا كانت.

من هنا، كانت تجربة الرابطة التونسية لحقوق الإنسان التي تولى فيها محمد الشرفي منصب نائب الرئيس سنة 1981 قبل أن يصبح رئيسها.

فضلا عن تأسيسه وترؤسه لمنظمة “لقاءات مغربية” التي كانت تهدف إلى تحقيق حلم الوحدة المغربية على أسس واقعية ودون أن تسيطر دولة من دول الاتحاد المغربي على أخرى أو على البقية، اضطرّ إلى “تعليق” نشاط هذه المنظمة بعد صعوبة تحقيق أهدافها للصراع بين الجزائر والمغرب حول ملف الصحراء.

وكان لمحمد الشرفي دور في صياغة “الميثاق الوطني” بعد الانقلاب الناعم الذي قام به زين العابدين بن علي على الحبيب بورقيبة. انقلاب رأى فيه الشرفي، إلى جانب جلّ مكونات الساحة السياسية من أحزاب ومجتمع مدني، بوادر أمل حول انتقال البلاد من الدكتاتورية إلى الديمقراطية، خصوصاً مع الوعود التي قدمها بن علي والإجراءات التطمينية التي اتخذها والتي تماشت إلى حدّ ما مع المعلن في بيان السابع من نوفمبر الأغرّ.

المشروع الإصلاحي التربوي.. والتكفير

كلّ هذه العوامل شجّعت محمد الشرفي على القبول بمنصب وزير التربية والتعليم العالي والبحث العلمي في 11 أفريل 1989، علاوة عن رغبته في إجراء إصلاح عميق في المنظومة التربوية التي اهترأت وتجاوزها التاريخ، وتسببت في خلق جيل يعاني من انفصام في الشخصية، فبين ما يتمّ تلقينه للتلاميذ في المدارس وما يعيشونه تناقض واسع وهوة شاسعة. فهم في المدرسة يتعلّمون ان الخلافة هي النظام الذي يجب أن يكون قائماً، وان الرجل يحق لها أن يضرب زوجته، وان المرأة أقل درجة من الرجل ومكانها هو المنزل، إلى جانب “تلغيم” أدمغتهم بخطابات رنانة حول الهوية العربية والإسلامية وإلإلغاء المتعمد للهوية التونسية وحضارتها. وبعد ذلك يصطدم التلاميذ بواقع مغاير لما ملؤوا أدمغتهم به، فالنظام القائم رئاسي مدني، والمرأة بحسب مجلة الأحوال الشخصية التي أقرها بورقيبة تتمتع بمكانة لا بأس بها في المجتمع وتعمل مثلها مثل الرجل في مختلف الميادين.

مشروعه في الإصلاح التربوي الذي كان تيّار”الإسلاميون التقدميون” برموزه على غرار الجامعي احميدة النيفر و الإعلامي و الكاتب صلاح الدين الجورشي أحد دعائمه، قابله عداء راديكالي من قبل حركة النهضة التي أصدرت بيانا شهيرا في 2 أكتوبر 1989 ممضى من قبل عبد الفتاح مورو وقد انطوى على لهجة تكفيرية مجحفة،فضلا عن مطالبتها للرئيس زين العابدين بن علي  وقتها بإقالة الوزير الشرفي.

في الحقيقة، حمل محمد الشرفي برنامجاً موسعاً وطموحاً لإصلاح المنظومة التربوية مؤمناً بأنه إذا نجح في مهمته فإنه سيخلق مواطنين متشبعين بمبادئ الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، مع الحفاظ على هويتهم التونسية التي يمثل الدين الإسلامي و العروبة رافدين أساسيين لها، ومن ثمّة التعرف على دينهم من ناحيته القيمية والروحية بعيداً عن استغلاله لأهداف سياسية.

إلا ان برنامجه كما سبق و أن أشرنا ، واجه معارضة شرسة وعنيفة من قبل حركة النهضة التي بلغ بها الأمر حدّ تكفيره واتهامه بـ”تجفيف منابع الإسلام”. كما عارضه الحزب الديمقراطي التقدمي(التجمع الاشتراكي التقدمي حينها) برئاسة أحمد نجيب الشابي. ولئن لم يستغرب الشرفي ردّة فعل النهضة إلا أنه فوجئ بموقف حزب الشابي، الذي اتهمه بأنه يعمل لتحقيق برنامج مغرق في الفرانكوفونية، خاصة وانه كان يعتبر انه قريب منه ولجهة أفكاره التي يدافع عنها.

وقضى محمد الشرفي 5 سنوات في وزارة التربية عمل خلالها ليلا نهارا من أجل نجاح مشروعه الإصلاحي الذي كان يعلّق عليه آمالاً كبيرة والذي ضحّى من اجله العديد من المرات وقدّم بعض التنازلات من أجل ان يبصر هذا المشروع النور، لأنه كان يرى فيه خلاصاً لتونس وسبيلاً للنهوض الحقيقي بها نظراً لإدراكه لأهمية التعليم في خلق جيل من المواطنين المتشبعين بقيم الديمقراطية والحرية والعمل. قيم لا بدّ من توفرها لتتمكن البلاد باللحاق بركب الدول المتقدمة.

سنوات الشرفي في الوزارة لم تكن سهلة، بل واجه رفضاً وعنفاً وتكفيراً من الإسلاميين الرافضين لمشروعه الإصلاحي، وواجه دسائس سياسية من جهات مختلفة سواء كان ذلك من داخل حزب التجمع أو من خارجه. واضطرّ كذلك إلى مواجهة ما يمكن وصفه بـ”شعبوية” بعض النقابات التي كانت تريد أن تزيد في مداخيل الأساتذة والمعلمين، أمر اعتبره الشرفي حقاً لهم، وفي الآن ذاته تريد تخفيض ساعات العمل وبالتالي التقليل من أهمية قيمة العمل، وفق وجهة نظره.

وإذ خيّر محمد الشرفي الرحيل عن منصبه بعدما أدرك ان الحلم بالديمقراطية لن يتحقق وان النظام يتوجه بقوة نحو الانغلاق وسيطرة الحزب الواحد والرجل الأوحد على دواليب الحكم، لم يبتعد تماماً عن الحياة السياسية إذ تفرّغ لأنشطة دولية والتعمق في البحث والدراسة، أنتج بعدها كتاب “الإسلام والحرية:  الالتباس التاريخي”، كتاب تتجاوز أهميته السياسة والدولة لتضع اليد على أهم عامل في بناء الدولة المدنية الحديثة الديمقراطية المتقدمة، وهو التعليم، حيث طرح فيه رؤيته الإصلاحية للمنظومة التربوية.

كما ان هذا الكتاب يمثل رؤية نقدية جريئة لما تعتبره التيارات المحافظة مقدسات ويقدم وجهة نظر قيّمة في موضوع طالما شكّل موضع تنازع وخلاف داخل ما يسمى بـ”الأمة العربية” حول الشريعة وتطبيقها ودولة الخلافة.

مسيرة خلّدها التاريخ

ممّا لا شك فيه ان محمد الشرفي هو منارة فكرية وثقافية ترمز إلى جيل كامل من المثقفين التقدميين التونسيين الذين يندر ان نجد لهم مثيلاً في مجتمعنا بتكويناته الحالية. وسيكون من الظلم ان نصنّف الشرفي باليساري أو بالدستوري أو غيرها من الإيديولوجيات المتوارثة والمتناقلة. فهو إنسان آمن إلى أقصى الحدود بالحرية والحقوق الكونية وبالمساواة التامة والديمقراطية، وهو خاض العديد من التجارب التي سعى من خلال كلّ تجربة تحقيق ما يرنو إليه من قيم ومبادئ علّه يساهم في أن يصل ببلاده إلى عصر التنوير أو أقلّه علّه ينهض بها من فكرها المتلبّد المتصحر المنحوت في أذهان مواطنيها، وإن اكتسى أحياناً طابع الحداثة والتقدم.

إنّ  محمد الشرفي المناضل التقدمي الذي يصفه راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة في كتابه “من تجربة الحركة الإسلامية في تونس” بأنّه “العلماني الذي حارب الإسلام والإسلاميين”-وكأنّ حزبه هو منبع الإسلام و حامي حماه” لم يتوان حتّى موته الجسدي لا القيمي في معارضة إرادة التسلط والاستبداد حيث كان من بين الموقعين على عريضة مندّدة و رافضة للتعديلات اللادستورية التي أدخلها بن علي و من لفّ لفّه من العابثين بالدستور من أجل التمديد في فترة حكمه التي حدّدها في البداية بـ3 ولايات رئاسية،كما اصطف إلى جانب العميد محمد علي الحلواني حينما ترشح لمنافسة تحمل أكثر من رمزية في الانتخابات الرئاسية 2004 وحصيلتها التسعينية المعلومة مسبقا،وهو ما يحسب لهذا الرجل الذي قد يكون أخطأ التقدير في بعض اللحظات التاريخية لكن من الإجحاف تلخيص مسيرته في فترة دون غيرها.

صحيح أنّ محمد الشرفي وافته المنيّة في جوان 2008، غير أنّ مسيرته و نضاله خلدهما التاريخ بنفس الشاكلة التي سجّلت الوزير خير الدين التونسي و الزعيم الحبيب بورقيبة و المصلح الإجتماعي الطاهر الحدّاد الذي كان بالأمس منبوذا،وها هو اليوم يوضع في لافتات في اجتماع لرئيس حركة النهضة راشد الغنوشي خلال إحياء ذكرى النضال النقابي و الكفاح من أجل مجتمع تنويري يرتكز على المساواة بين المرأة و الرجل!

في كلمات قليلة، محمد الشرفي ليس سوى ذلك المثقف العضوي و السياسي الوطني حتّى النخاع الذي ناضل من أجل مستقبل أرقى للأجيال القادمة بحثا عن تثوير ذهنيات متكلّسة وبناء دولة المواطنة، عكس من كان وسيبقى يفكّر فقط في المآرب الانتخابية المؤقتة والزائلة.

 

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.