إيران بين عناد التاريخ وتغريدات “ترامب” المهلوسة

محجوب لطفي بلهادي –

بنفس الأوركسترا الافتراضية التي عرفتها الموجة الاحتجاجية لسنة 2009 – مع تغيير طفيف فى شخصية “المايسترو” بانتقالها من قيادة وتوجيه للأحداث عبر “الفايسبوك” إلى قيادة مزدوجة عبر “التلغرام والانستغرام”هذه السنة – عاش الشارع الايرانى منذ موفى السنة الماضية حالة من المدّ والجزر الاحتجاجي العنيف طالت العديد من المدن الإيرانية، “مفتّحاتها الأولى” مطالب اجتماعية واقتصادية مشروعة و”طبقها الرئيسي” دعوة صريحة لإسقاط المرشد الأعلى…

منذ انطلاق الشرارة الأولى من الحراك  توهّمت عدد من الدوائر الإعلامية والقادة فى العالم، فى مقدمتهم “ترامب” أنّ  نهاية تجربة “ولاية الفقيه” الايرانية قد دنت، وأنّ تغريداته التويترية التحريضية الممعنة فى الغباء كفيلة  بتحقيق  ذلك…

بعد أكثر من أسبوع من التظاهر والقصف الاعلامى الغير مسبوق الذي وصل مداه إلى أروقة مجلس الأمن، اتضح بالكاشف أنّ خارطة لعبة التحكّم بالشارع وبمواقع التواصل الاجتماعي تغيرت بالكامل لصالح أنصار النظام وجيشه الالكتروني المدرّب للغرض والمستخلص لدروس احتجاجات 2009 ..فمن جموع كبيرة تنادى بإسقاط النظام انقلب المشهد وبسرعة إلى حشود ضخمة تكتسح الشوارع والبوابات الالكترونية تهتف بحياة المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية الإيرانية…

بالتأكيد، يمرّ المجتمع الايرانى بمختلف قومياته بأوضاع اقتصادية واجتماعية متأزمة استمرت لعقود ولم يعد بالإمكان السكوت عنها، وأنّ المواطن الايرانى لم يعد يستوعب ثنائية العيش فى بلد قويا ومؤثرا فى العلاقات الدولية وعاجزا فى نفس الوقت عن ترتيب بيته الداخلي وفق قواعد الشفافية والعدل والإنصاف، إلاّ أنّه فى اللحظة التى تغيرت فيها الشعارات والأمزجة داعية إلى إسقاط سقف هذا البيت على رأس الجميع، اتخذت المسالة منحى مختلف تماما يصعب استساغته من قبل قسما كبيرا من الإيرانيين الذي يبقى فى غالبيته محافظا وفيا لثورته…

ما لم تفهمه “الظاهرة الترامبية” الموغلة فى الشعبوية أنّ ارث  إيران الحضاري المميز على مرّ التاريخ مثله مثل “روسيا القيصرية” أو “الصين الماوية” شديد الارتباط  بمفاهيم السلطة المطلقة  والتفويض الفوقي المسند للملك، للقيصر أو للزعيم.

لم لا يعلم فإيران الفارسية حكمها لقرون طويلة “كسرى” ملك، ثم أتى “الصفويين” لإدارتها وفق تنظيم مجتمعي عقائدي صارم حيث تم إقرار المذهب الشيعي “الاثني عشري” مذهبا رسميا للدولة، تلتها تباعا السلالة “القاجارية” ثم “الفهلوية” التى كانت تحكمها ملوك يطلق عليهم “بالشاهنشاه”، وحتى ثورة 1979   لم تشذ عن القاعدة بإعلانها “آية الله الخميني”  كصاحب الأمر والنهى فى إيران تحت مسمى جذاب آنذاك:  “المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية الايرانية”…

ما لم تفهمه “الظاهرة الترامبية”، أن الايرانى بمختلف انتماءاته الاثنية أو العقائدية  زراداتشى المنشأ (مثابر ومكابر) ، مصاب بدرجات متفاوتة بعقدة المظلومية الشيعية المصدر، فى علاقة ملتبسة مع الآخر الغير ايرانى.

ما لم تفهمه “الظاهرة الترامبية”، أن إيران “قم” من أكثر الدول حرصا على تنظيم انتخابات رئاسية وتشريعية ومحلية فى العالم ..”فدمقرطة” الشأن العام ضمن ما تسمح به  منظومة “ولاية الفقيه”، وما تشهده من نسب مشاركة انتخابية عالية، وتمثيل برلماني للأقليات الدينية من زرادتشيين ويهود ومسيحيين، وتنافسية شديدة حول البرامج بين المحافظين والإصلاحيين حيث يختلط فيها على الهواء مباشرة الفستق “الروحانى” بالنووي “النجادى” أفضى  إلى خلق “بازار” سياسي شديد التفرد بنكهة إيرانية صرفة لا يعرف سرها إلا المواطن الايرانى…

ما لم تستوعبه “الظاهرة الترامبية”، أنّ المراهنة على المواقع التواصل الاجتماعي لتحريك الشارع أو على القومية “الاذرية” نسبة إلى “أذربيجان”  ذات الأصول التركية المعروفين بالإيرانيين الأتراك – ديمغرافيا ثاني قومية بعد الفرس فى إيران-  للاصطفاف إلى جانب المحتجين ليست سوى مجرد أوهام تنطوي عن جهل مطبق لدينامية الواقع الايرانى المعقد والمركب ولأبسط مفردات التاريخ والجغرافيا.. فالقومية الأذرية التي راهنت عليها الادراة الترامبية وعدد من الدول المجاورة يشكّل المذهب الشيعى غالبية سكانها وحتى أنّ المرشد الأعلى “على خامنئى” نفسه ينحدر من أصول أذرية، كما أنّ موقعها الجيوسياسى الحساس الملاصق لتركيا من جهة الغرب وللأقلية الكردية الايرانية جنوبا تجعلها تفكّر مرتين قبل خوض مغامرة من هذا النوع، فلا من مصلحة لأحد (بالخصوص تركيا) إثارة القلاقل بين “تبريز” عاصمة أذربيجان الايرانية والحكومة المركزية بطهران والتي من شأنها ان حصلت أن تدفع بأكراد إيران على إتباع النهج  الانفصالي لأكراد تركيا وسوريا والعراق…

أما فى خصوص استخدام مواقع التواصل الاجتماعية  كحصان طروادة لزعزعة استقرار إيران فان انتفاضة الشارع الايرانى برهنت عن مدى محدوديتها، فمنذ الحركة الاحتجاجية لسنة 2009 والهجوم السيبرنى المزدوج الامريكى-الاسرائيلى الغير مسبوق على مفاعل “اراك” و”نتانز” سنة 2010 لعرقلة تقدم البرنامج النووي الايرانى من خلال بث فيروس “Stuxnet”، فان إيران  استوعبت الدرس جيدا وبادرت بتطوير منظوماتها الدفاعية، فتم استحداث جيش الكتروني للغرض محترف قادر على تامين الفضاء الافتراضي  الايرانى من مخاطر الهجمات السيبرنية والحملات الدعائية المعادية…

أخيرا وليس بآخر فانّ ما لم تفهمه “الظاهرة الترامبية” الممعنة فى السذاجة ، بانّ الاحتكام إلى الشارع لقلب المعادلة السياسية فى الحالة الإيرانية عملية محفوفة بالمخاطر بنسب نجاح تقارب الصفر تقريبا، فمعركة “كسر العظام” أو ما اصطلح على تسميته “بنزال الشوارع” بين المؤيدين والمناهضين للنظام أثبتت التجربة الإيرانية أنها تؤول بالنهاية إلى معسكر المؤيدين… فمنذ قيام الثورة بادرت مراكز القرار فى إيران إلى خلق أجهزة موازية عن الأجهزة الرسمية للدولة الإيرانية الشهانشاهية  منها ما هو عسكري (الحرس الثوري) ومنها من هو شبه نظامي (الباسيج) قوامه ملايين من المتطوعين، يشتغل بجهاز “الريموت كونترول” الذي بيد المرشد الأعلى للثورة ، وقادر على اكتساح الساحات والشوارع فى دقائق بحشود مليونية…

شئنا أم أبينا والى حين إشعارا آخر، ستظل إيران فى انتظار “المنتظر” المنقذ، يسوسها بالتداول المحافظين والإصلاحيين، تتجدد وتتقوى بمزيد من الشعور والإحساس بالمظلومية، يوجّه قلاع مراكبها رياح زرادتشية – شيعية.عاتية، تحذر كل من يفكر فى محاولة استنساخ “ربيع عربي مدمّر” على أراضيها بالرد الحازم، مذكرة الجميع  بأنها  تستفيق كل سنة على ربيع ايرانى جديد وفق تقويمها الشمسي…

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.