في البحث عن المشترك: عبد الحميد الجلاصي يوجّه رسالة من 5 نقاط إلى صديق لا يعرفه

بقلم القيادي في حركة النهضة عبد الحميد الجلاصي –

إلى صديق لا أعرفه:

أوّلا: الساحة التونسية لا ينقصها الشحن والتطاحن بين أطراف لم تتح لها فرص للتعارف والحوار لإدارة الاختلاف بعد ذلك على بينة.

هذا الشحن سيزداد بمناسبة الانتخابات او بمناسبة السعي لتأجيل الانتخابات.

لذلك نسعد بأصوات الحكمة التي ترتفع من هذا المعسكر أو ذاك، وهي أصوات موجودة ولكن تعلوها أصوات قرع الطبول الأيديولوجية والسياسية والحزبية والمصلحية.

كان ذلك إحساسي و انا اقرأ التدوينة “المقامرة والمغامرة” للصديق الذي لا أعرفه مصطفى العلوي.

وللحقيقة فقد كنت انتبهت للتدوينة وقرأتها ومضيت.. كما يتم التفاعل مع كثير من المضامين الجيدة في ذلك الفضاء الأزرق الشاسع، حتى نصحني صديق جامعي واشار علي بضرورة التفاعل.

الطريف ان يكون ذلك قد حدث يوم أهديت لي نسخة من العدد الاول من المولود الفكري الجديد: “المشترك”.

اخطر ما يمكن أن يحصل الا نستثمر فرص الحوار العقلاني وألا نتفاعل مع مؤشرات التفهم. الاشارات الضعيفة في الغالب تموت ولكن حدث ان اصبحت مسارات.

كيف يمكن ان نكون أدوات مفيدة في يد السيد التاريخ؟

ثانيا: الصديق الذي لا اعرفه لم يغادر حذره، و انما انتقل من موقع اقرب إلى التوجس إلى موقع أقرب إلى التصديق مع الخشية من انزلاق مضامين التجديد النهضوي الى مواقع لا تستفيد منها لا تونس ولا الثورة رغم انها قد تطمئن الباحثين عن نهضة “مدنية”. انه هنا يشير الى التموقع الاجتماعي والسياسي للنهضة، وهو محق في هذا الطلب. كأنما هو يقول أن النهضة بشر من البشر.

أفهم وأتفهم جيدا حذره. ولكن يكفيني فقط هذه النتيجة. ففي بعض السياقات المريضة تصبح بعض البديهيات مكاسب للبلاد و ليس للنهضة فقط. حركة النهضة حركة بشر تجري عليهم سَنَن التاريخ وقوانين العمران. يتعلمون من غيرهم ومن تجاربهم ويتفاعلون مع محيطهم.

للأسف، صديقي، فكل الحركات والاحزاب والمنظمات تطالب بالإفراج عن الارشيف الوطني، وهو مطلب حقيقي ففيه كنوز للشباب والباحثين وللحقيقة والمستقبل، ولكن هذه الاحزاب بما فيها النهضة لم تفرج عما تبقى لديها من أرشيفات لم تحجز كي يتعرف عليها الباحثون والناس كما هي. هل هذا نتيجة الخوف؟ ام نتيجة الانشغال؟هل هي الاستهانة بهذا المطلب الوطني الجليل؟ قد يكون كل ذلك.

تاريخ حركتنا النهضة، لم يكتب بعد بطريقة تبين ديناميكيتها وتنوعها وتضاريسها.

ربما يتصور البعض ان الاستناد الى مرجعية الاسلام تعني السكينة وغياب الأسئلة. كنت شاهدا على جيل كانت له حيرته وكانت تأكله الاسئلة. لم يكن سهلا مروره بجانب كل ادبيات المدونة الاسلامية على اتساعها وتباينها من إحيائية واصلاحية ونهضوية ولا بجانب اسئلة حنفي او اركون او الجابري او تيزيني او مهدي عامل وعفلق وسيف الدولة، او بجانب اسئلة خير الدين وابن ابي الضياف والحداد وحتى بورقيبة.

و لم يكن من السهل الافلات حتى من اسئلة أصدقائنا ورفاقنا في الساحة الطلابية. المنافسة والخصومة وحتى العداء لا ينفي التفاعل. لا احد يفلت من تأثير الجوار.

ثالثا: في جوان 2012 اشرفت، بحكم مسؤوليتي في الحركة حينها، على إطلاق سلسلة بعنوان “قطوف النهضة”، المنطلق كان فكرة بسيطة، كان الارشيف في تاريخ الحركة، كما في تاريخ التنظيمات التي اضطرت للسرية، عبئا عليها، فهي تراكم الوثائق والادبيات حتى يحجزها البوليس لينتقي منها ما به يدينها ويترك البقية للرطوبة والاهمال والنسيان.

تساءلنا، وكنا مجموعة من المسؤولين، لم لا نقلب علاقتنا بالماضي والوثائق لتصبح مادة للدراسة والتعريف، كما يقول البعض: “اسمعوا منا قبل ان تسمعوا عنا”.

وخرج من السلسلة خمسة كتب، أهمها:

العنوان الاول فيها “بيانات ذكرى التأسيس”، وقد جمع بيانات ذكرى التاسيس من سنة 1981 الى سنة 2012، و هي بيانات تحظى عادة بعناية خاصة في اعدادها مثل كل الذكريات الجميلة. من خلال هذه النصوص يمكن ان نهتدي للخيوط الناظمة في العقل السياسي للنهضة.

يمكن للباحث ان يتوقف مثلا عند البيان الصادر في لندن في السادس من جوان 1996، وما تضمنه من مراجعات علنية وجريئة، او عند البيان الصادر بتاريخ الثامن من جوان 2006 حيث نجد تنظيرا عاليا لديموقراطية التوافق بديلا، في ظروف الانتقال، عن “الديموقراطية الحسابية: ديموقراطية الأكثرية والأقلية”.

والعنوان الثالث :”حركة النهضة 2010 الارضية الفكرية ونظرية العمل وملامح المشروع”، و هي خلاصة مجموعة من المراجعات الفكرية والسياسية والتنظيمية حصلت في ظروف المتابعة انطلاقا من سنة 2006، ولم تتوقف الا في ديسمبر 2010، لما اتخذت قيادة الداخل قرارا بتعليق هذا الجهد والانخراط في الثورة الصاعدة لشعبنا.

و العنوان الرابع: “حركة النهضة: المسيرة والمنهج”. و هي قراءة مكثفة للمسيرة السياسية والفكرية للحركة بعيون داخلية.

رابعا: من حق المجموعة الوطنية أن تراقب التطورات الحاصلة داخل النهضة. ولكن من المهم ان تكون ثقافة المراجعات والتجديد تقليدا للنخبة السياسية والمدنية في بلادنا.

الأصدقاء في اليسار كانوا أكثر جرأة في الثمانينات لما أجروا في مجلة المغرب مجموعة من المراجعات، ولما نشروا بعض الوثائق المهمة (Stratégie et tactique)، ولما احتضنت مجلة “اطروحات” بعض المحاولات ذات الطابع التنظيري.

للاسف يبدو لي ان اليسار التونسي متهيئ من طرح الاسئلة وفوت على البلاد فرصة بناء يسار اجتماعي حين واصل استغرابه في الأيديولوجيا القديمة.

لم نقرأ مراجعات تموقع الديموقراطية في الفكر اليساري الماركسي بنوع من القطيعة او التراكم. لم نر نصوصا تشرح هذا الانتقال من دكتاتورية البروليتاريا الى المشاركة الكاملة في اللعبة السياسية.

لم نقرأ مراجعات في الفكر القومي بشقوقه البعثية والناصرية والقذافية بعد سلسلة النكبات التي يسهل تحميلها للإمبريالية والرجعية العربية.

وخاصة لم نقرأ مراجعات للمسؤولين في نظامي بورقيبة وبن علي. لا أحد اعترف بخطإ ما، و لا أحد اعتذر.

الدساترة سنة 1987 كانوا اكثر شجاعة. ففي شهري نوفمبر وديسمبر من تلك السنة احتضنت صحيفة العمل ندوات تقييمية. قالت ما يجب ان يقال. بعدها مباشرة رجعت الالسن الى مكامنها، وعدنا الى اللغة الخشبية، واللغة الخشبية هي نتاج الجهل او الخوف.

أيضا المنظمات الكبرى وجمعيات المجتمع المدني الكبرى لم تتقدم كثيرا في طرح اسئلة التجديد او في القراءة النقدية لمساراتها. وبعضها لا يزال لحد اليوم وفي اوضاع الديموقراطية والحريات المنفتحة حزبا سياسيا متنكرا.

يصعب الا يخطىء من يمارس، ومن يتجاهل هذه الحقيقة يصبح الخطأ له هوية.

خامسا: خلاصة الامر، المراجعات والتجديد استحقاق وطني، فالاوضاع الجديدة فكرها جديد. النهضة تتقدم، و قد لا يرضي نسق تقدمها كثيرين حتى من داخلها، وتلك مسؤوليتها بحكم موقعها.

ومع ذلك قد يكون من المفيد الإشارة الى مسألتين:

-اولا: يجب ان نستدرج بَعضنا الى مربع المراجعات .فلنا، جميعنا، أسرارنا الصغيرة وأخطاؤنا الصغيرة والكبيرة. فبعض اجتهاداتنا جميعا كانت مرتبطة بسياقات وكانت متناسبة مع تلك السياقات او على الأقل يمكن تفهمها في إطارها، وبعض اجتهاداتنا كانت خاطئة ولم تكن متناسبة مع تلك السياقات حتى.

كيف نقنع بَعضنا بشجاعة المجددين وبشجاعة النقد الذاتي؟

كيف نقنع بَعضنا بضرورة المراجعات لا من اجل الماضي و انما من اجل المستقبل؟

كيف ننبه بَعضنا ان من لم يفهم مقتضيات الاوضاع الجديدة يصبح كيانا يجلب الشفقة؟

-ثانيا: يجب تحييد مسالة التجديد الديني عن الاحزاب والمشاحنات الحزبية.

التجديد الديني مطلب حضاري وسياسي. النهضة حزب ذو مرجعية إسلامية، و لكن الاسلام سابق للنهضة وسيبقى بعدها. فالاسلام ملك للتونسيين كلهم: التزاما لمن كان منهم متدينا، وانتماء ثقافيا لمن كان غير ذلك.

الاشتغال على التجديد ليس الشان الأصلي للاحزاب، يمكن ان تساهم فيه وفقا لمشمولات العمل السياسي، ومن خلال توفير المناخات المشجعة على البحث، و يمكن ان يساهم فيه مناضلوها وفقا لاختصاصاتهم العلمية او نشاطاتهم المدنية، لكنه من شان المجتمع ومؤسساته وجمعياته ومفكريه وجامعاته.

وهذا مسار له نسقه المختلف عن مسار الصراع السياسي بل قد يشوش عليه ادراجه في التنازع السياسي.

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.