التونسيون لا يتفقون على ما يريدون : لا حقرة ولا تهميش في منطلق البناء

بين متظاهرين يطالبون بإزالة مصنع بحجة انه لوّث البيئة في مدينتهم وآخرين يرفضون اقامة مصنع  بحجّة انه يلوّث البيئة في مدينتهم مسافة لم نستطع تقديرها او قياسها. انما المستتر ضمنها تقديره في نظرنا تغافل هؤلاء وأولئك عن فرص العمل المباشرة المتوفرة في المصنع القائم وتلك التي سيوفرها المصنع الجديد. كما من ضمنها تناقض يقع فيه الجميع يوميا بانتقاد سياسة " التهميش  والإقصاء والحيف والحقرة " التي طبقتها الدولة ومؤسساتها العمومية في العقود الماضية وأدت الى ما فيه اليوم العديد من الجهات من ناحية ومن ناحية  أخرى مطالبتها بالاستجابة للمطالب المرفوعة هنا وهناك بل في كل مكان بما يساعد على تحقيق التنمية وحل مشكلة البطالة المستفحلة.  

في كل القطاعات

ان من ينظر الى خريطة تونس اواسط السبعينات او حتى الى مطلع الثمانينات على الاقل يرى صناعة سياحية كثيفة في جربة جرجيس من ولاية مدنين ومصنع اسمنت في الحامة ومجموعة من المصانع الكيميائية في ولاية قابس ومثلها في ولاية صفاقس.ومصانع النسيج في المنستير والمكنين وقصر هلال والمهدية ومصنعي السيارات والميكانيك في ولاية  سوسة وقطبا سياحيا مهما في الحمامات ونابل ومصنع الاسمنت في جبل الوسط من ولاية نابل ومصنعي اسمنت في العاصمة وآخر في بنزرت الى جانب مصنع تكرير النفط ومصنع الفولاذ ومصنع السفن في منزل بورقيبة بولاية بنزرت ومعمل السكر في باجة ومصنع الخفاف في طبرقة ومعمل السكر في ولاية جندوبةواسمنت ام الكليل والمناجم في ولاية الكاف ومصنع الورق والحلفاء في القصرين ومصنع الجير بتالة بولاية القصرين والفسفاط وما يرافقه من مصانع اضافة الى مصنع المفرقعات بالقطار في ولاية قفصة ومصنع التبغ في ولاية القيروان.

هذه كلها مصانع اقيمت وبنيت بالمال العام وأدارها موظفون عموميون وعمل ومازال يعمل فيما تبقى منها اطارات وعمال وموظفون تونسيون. وكانت سببا في اقامة  وحدات صناعية وخدمية خاصة عديدة متنوعة تتكامل معها في انجاز وإنتاج بعض ما يلزمها من قطع غيار الى جانب خدمات اخرى وتسببت في تعمير مدن بأكملها بما أنشأته من حركية تجارية شملت كل القطاعات دون استثناء. وان ننسى فلا ننسى انتشار المدارس الابتدائية والثانوية والمستوصفات ومراكز الصحة الاساسية والتعاضديات ووحدات الانتاج الفلاحي. وتضاف اليها الوحدات الفندقية التي بنتها الدولة بواسطة  الشركة التونسية للنزل و السياحة ومنها على سبيل المثال صحراء بالاص في نفطة و يوغرطة بالاص في قفصة و سيليوم في القصرين وسيكا فينيريا في الكاف والأطلس في جندوبة وفاقا في باجة والأغالبة في القيروان و اوليس بلاص في جربة وغيرها كثير في المدن الساحلية من طبرقة الى جرجيس.

  في كل الجهات    

ان القول اليوم بان الجهات الداخلية كانت مهمشة ومحرومة ومقصية و" محقورة " طيلة 60 سنة قول مردود على اصحابه بدليل الخريطة التي ذكرنا وبدليل الخيار الاشتراكي الذي اعتمدته حكومات الاستقلال لا سيما من خلال البرنامج الاقتصادي والاجتماعي الذي اعدّه الاتحاد العام التونسي للشغل. وهو خيار انبنى على التنويع والتوزيع والانتشار على كامل البلاد علما وان عدد الولايات الى حدود سنة 1974 لم يكن يزيد عن 13ولاية وهي تونس ونابل وسوسة وصفاقس وقابس ومدنين وقفصة والقصرين والقيروان والكاف وجندوبة وباجة وبنزرت. 

نرى من خلال خريطة المصانع انها غطت الولايات الثلاث عشر وانها شملت كامل البلاد او تكاد وقد جاءت نتيجة تفكير قضى بالعدالة بين الجهات وتوزيع الثروة بأقرب ما يمكن من المساواة. لكن الغريب في الامر ان هذا الانتشار لم يمنع حركة النزوح من الارياف والقرى في اتجاه المدن من الاستمرار بل والتكثف في بعض الاحيان والاتجاهات ، وأبرزها من الجهة الغربية بكامل ولاياتها في اتجاه العاصمة والجهة الشرقية ولو بتفاوت بين الجهات وذلك مباشرة بعد دخول سياسة التعاضد حيز التنفيذ خاصة في النصف الثاني من الستينات ورافقتها سياسة هجرة قانونية مكثفة الى أوروبا منذ مطلع السبعينات.

 لكن بين النظري الذي رسمه المخططون على الورق والحقيقة التي افرزها واقع الممارسة مسافة طويلة حيث لم تستطع تلك المصانع والنزل المنتشرة في اغلب الجهات استيعاب كل اليد العاملة الوافدة على سوق الشغل رغم انها في غالب الاحيان اغرقت بأعداد زائدة عن حاجتها من العمال بدعوى حل ما أمكن من المشاكل الاجتماعية. ولا شك ان ذلك الاغراق مضافا الى مظاهر أخرى من مظاهر سوء التصرف عجل في قرارات التفريط فيها بحجة وقف الخسائر والإفلاس.

نطالب ولكن…

وزاد الطين بلة ان السياسة المتبعة منذ مطلع التسعينات قضت بخصخصة عدد كبير من هذه المصانع والمؤسسات فكان من نتيجة ذلك انه وقع الاستغناء عن عدد كبير من العمال مقابل منح قليلة للتعويض عن فقدان العمل وجرايات تقاعد متواضعة. والمؤلم  ان المؤسسات التي بيعت لم تستمر في العمل الذي كانت تقوم به ولا في الدور الاجتماعي الذي كانت تلعبه وإنما اشتراها مقتنوها لتحقيق مكاسب اخرى ابرزها الاراضي التي كانت مقامة عليها حيث وقع تحويل البعض منها الى مخزون عقاري بيع في شكل مقاسم للبناء.

لذلك يجب ان نتفق اليوم ونعاود السؤال ،هل نريد المصانع وبعث المشاريع وشق الطرقات وبناء المستشفيات والمدارس وغيرها من المؤسسات على اساس انها مصدر  لانشاء فرص العمل والقضاء على البطالة وبالتالي تحقيق نسبة اعلى من النمو ومن التنمية مع ما يرافق ذلك من استقرار في الجهات ، أما اننا نريدها فقط مكاسب تسجل ونبقيها خاوية على عروشها باعتبار ان من يطالب بها اليوم لن يرضى بالعمل فيها وبالتالي سيهجرها او قل سينزح عنها مثلما فعل شباب السبعينات والثمانينات؟    

 

 

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.