108
بقلم رشيد الكرّاي –
لأن للرداءة وجوها كثيرة ولأنها انتشرت كالوباء لتنقل فيروساتها المعدية في كل الأوساط والفئات ، بتنا نخالها عادية بل وطبيعية تصديقا لكلمة المفكر الأمريكي الشهير نعوم تشومسكي حين قال : اجعل الرداءة تعمّ حتى تصبح عادية ثم مستساغة ثم مطلوبة.
تأمّلوا معي ما نحن فيه على كل الأوجه والأصعدة فإن شاهدتم غير الرداءة فهذا يعني أنني أعيش بمفردي في عالم آخر غير الواقع التونسي . فعندما يتحالف حانوتان سياسيان هما ملكية خاصة لباعثيهما سواء بالتأسيس أو بالوراثة فتلك رداءة حزبية ما بعدها رداءة بل هي شبيهة بالعادة السرية التي يمارسها بعض الذكور في صغرهم.
عندما تتدلى كروش "جنرالات" هذه الأحزاب من السمنة جرّاء علف موائد إفطار "اطعم الفم تستحي العين"، فتلك رداءة سياسية!
عندما تجد تونس نفسها بعد أكثر من ستين سنة من الاستقلال تحكم من أشباه السياسيين إخوانا كانوا أو شياطين فهذه رداءة حضارية.
عندما يكون لباس الجلابيب وغطاء الرؤوس وإطلاق اللحي من أصول الدين وتكون محاولات تطوير التشريعات والمضي قدما على درب التطوير والتحديث من كبائر المعاصي فهذه رداءة دينية.
عندما يرفع نقابي في التعليم عقيرته بالصياح صباحا مساء مهددا الأبناء والآباء بسنة دراسية بيضاء وتصمت الدولة أمام صخبه بل ويُهدَدُ وزيرُ التربية بالمفاحشة في مكتبه فتلك رداءة تربوية!
عندما يُضرب الطلبة في الجامعة لخمسة أشهر ويدرسون شهرا ويُمتحنون في شهر فتلك رداءة علمية!
عندما يتحكم الجهلة والصعاليك والخارجون عن القانون وذوو السوابق بمصير مؤسسات عمومية ويعبثون بسمعتها ومصالحها، ويتهافت نقابيو آخر زمن للدفاع عنهم ومنع مساءلتهم قبل عقابهم ، ثم تسمع مزايداتهم وصراخهم في الدفاع عن القطاع العام فتلك رداءة نقابية.
انتهى زمن الرداءة وجاء زمن الانحطاط. ولا أدري كيف تمّ الانتقال بنا من زمن إلى آخر. عشرات الأحزاب السياسية مخترقة تردد سنفونية واحدة: مصلحة الوطن والمواطن.
قنوات تلفزيونية بالعشرات، يصعب على المشاهد رؤية حصة واحدة تحترم مستواه الثقافي والعلمي وأفكاره في الانفتاح والتحرر. جرائد تملأ الأكشاك وأرصفة الشوارع، لا تجد فيها مقالا يعبّر عن واقعك المزري أو عن أحلامك في مسايرة العصر. جامعات ومدارس عليا في كل ولاية ، يتخرج منها الآلاف بل مئات الآلاف، دون مستوى علمي ولا وعي سياسي إلا من رحم ربي وشذّ عن القاعدة وأصبح منبوذا مطرودا تائها في مجتمع تآمر مع منظومة حكم فاسدة من أجل نشر الجهل والأمية.
إنّه عصر الانحطاط، عصر ارتفع فيه سهم الجاهل الجريء وانخفض سهم العالم المتواضع. عصر لم يسلم فيه قطاع واحد من كلّ القطاعات التابعة للدولة أو الخواص من المحسوبية والفساد، واعتلاء أشباه العلماء والمتخصصين المناصب القيادية تاركين وراءهم العلماء وأصحاب الكفاءات في المناصب الدونية، ممّا دفع بهم إلى الهجرة إلى بلاد العكري والعم السام، حيث الاعتراف والتقدير والكرامة.
وماذا بعد عصر الانحطاط، بعد أن أصبح الشباب يحلم بواسطة الحشيش والعقاقير المهلوسة؟ ماذا بعد عصر الانحطاط بعدما أصبحت قوارب الموت يقتنيها أصحابها بأموال الشباب الخاصة رغبة من هؤلاء في الانتقال إلى العالم الآخر؟ لقد انتقل النظام الرديء من زمن إلى نظام آخر منحط، ومازال يعيش على أمل الانتقال بنا إلى زمن الجحيم…