بقلم: نادية المسغوني-
يَشهدُ تاريخ الثورات أنّ التحولات الديمقراطية في العالم تَحصُل غالباً بإصلاحات تَنتُجُ عن انقسام داخل النظام الحاكم وتُرافقها خطوات شعبية تُحوِّلُ تلك الإصلاحات الصُّورية إلى حقيقية، وعندها تنشأ ديناميكية لا يمكن إنهاؤها إلا بالتوافق بين الأطراف الرئيسية من النُخبة الحاكمة والحَراك الثوري فقط، وعندها يُصبح مُمكناً تقاسم السلطة أو التناوب عليها، وقد يكون ثمن هذا الانقسام باهضا وحصيلته موجعه اذا لم تُغلًّب المُصلحة الوطنية واذا ما قُمعت إرادة الشعب، مُعادلة صعبةٌ و لكنها ليست بمستحيلة، ان توفرت الارادة.
فالأزمة السياسية الراهنة التي تعيشها الجزائر واتساع دائرة الحراك الشعبي الرّافض لخارطة طريق السلطة في مُواجهة الوضع المتأزم، منعرج جديد تدخل فيه البلاد بدخول القوى الغربية على خط الحراك فسريعا ما جاء التحذير من روسيا من وجود محاولات خارجية لزعزعة استقرار الجزائر فحسب موسكو، الشعب هو من يُقرر، وتَحرّك الآلة الديبلوماسية الجزائرية الرسمية وغير الرسمية على مستويات متعددة، فمن روما الى موسكو، رمضان لعمامره يُطمئن الشركاء والحلفاء الدوليين للجزائر ويستعرض بكثير من التحرير والشرح الخطوط العريضة لورقة طريق السلطة للخروج من الازمة السياسية الراهنة ..
ان المتابع لمجريات أحداث الحراك الشعبي المتواصل بالجزائر وتزايد التحركات الديبلوماسية للنظام السياسي في الخارج، يلاحظ مستجدات اختلفت حولها القراءات وطيف واسع من السّاسة يرى أن زيارة العمامره لكبرى العواصم الغربية يَصُب في سعي السلطة لتدويل الأزمة السياسية، في حين يمررها النظام على أنها زيارات تَصبُ في خانة المصالح المشتركة،
مشروع شُكّكَ في مصدره، واُتهِمت فرنسا بأن لها يد فيه، خاصة بعد سرعة ردة فعل الرئيس الفرنسي "ماكرون"، فبعد حوالي ساعة من التصريح، ومن جيبوتي خلال مؤتمرٍ صحافي، تدخّل معبرا بأن الشعب الجزائري ولا سيما الشباب، حُرٌّ في تعبيره بكرامة عن تطلعاته ورغبته في التغيير، إلى جانب مِهنيّة قوات الأمن، مشيداً بقرارات الرئيس الجزائري عبر العزيز بوتفليقة ومعتبراً أن هذا الأخير قد فتح صفحة جديدة في التاريخ الجزائري..
ولعل هذا الموقف قد أغضب أكبر شريكين للجزائر، الصين وروسيا، ووجدت السلطة الجزائرية نفسها في حالة "تسلل سياسي" بعدما بادرت إلى تدويل الأزمة، عبر إيفاد نائب رئيس الحكومة ووزير الخارجية رمطان لعمامرة للقاء مسؤولين، حيث بدأ من روما ثم موسكو وباريس وبروكسل ورفضت ميركل مقابلته لـ"شرح الموقف"، وتزامن ذلك مع وجود وزير الخارجية السابق عبد القادر مساهل في واشنطن.
واستنكرت قوى المعارضة السياسية والحراك الشعبي محاولات السلطة الاستنجاد والاستقواء بالقوى الخارجية والسعي الى تدويل الازمة الجزائرية.
فالنظام اليوم يعيش حالة من الارتباك اللافت وهوما قد يفتح باب الإملاءات والتدخلات الأجنبية على مصراعيه، خاصة باستدعاء الأخضر الإبراهيمي والذي يُعتبَر في حدّ ذاته رسالة للخارج من قبل السلطة، على خلفية موقعه في المجتمع الدولي وعلاقاته الديبلوماسية الهامة، وخبرته في فك النزاعات الدولية.
ونُذكِّر بأن النظام، كان دائما، يُخوّن المعارضة باتهامها بأنها أداة بيد الخارج، لكن مع فقدانه الشرعية الدستورية والشعبية عمد عَلنًا الى "الاستقواء بالخارج"، وهو ما يجعلنا نستنتج حالة الإفلاس السياسي التي ترقى إلى مستوى الخيانة السياسية..
فوزير الخارجية الروسي لافروف قد حذّر من مغبّة محاولات زعزعة الاستقرار في الجزائر، وعبّر عن رفض موسكو القاطع لأيّ تدخلٍ خارجي في الشؤون الجزائرية الداخلية، وكان ذلك خلال مؤتمر صحافي مشترك مع نظيره الجزائري.
تصريحات صادمه بعض الشيء فالجزائر ليست بمحمية روسية كي تُعلن موسكو رفضها أيّ تدخل في الشؤون الجزائرية.. صحيح أن روسيا أوّل مُسلح للجزائر ولكن هذا لا يسمح لها بأن تُعبر عن مواقف سياسية باسم دولة ذات سيادة.
ويمكن اعتبار لُجوء السلطة الجزائرية إلى إعطاء أولوية للتواصل مع الشركاء والعواصم الغربية الكبرى، طمأنة للغرب واصرار على تمرير خطة الرئيس بوتفليقة لتسليم السلطة، مهما كانت الظروف والتطورات.
ولكن يجدر الإشارة، الى أن الجولة الخارجية للعمامرة لا تتعلق بشرح موقفٍ أو وضعٍ فحسب، بل تنطوي أيضا على مخاطر قد تدفع الجزائر إلى دائرة مزيد من الابتزاز في ظل وضع حساس وهش.
فالروس لديهم مصالح وطيدة مع النظام الا شرعي القائم وكذلك مع كبار الجنرالات الذين تدربوا في روسيا ولازالوا يتدربون هناك، وأن أي قرار دون تنسيق مسبق قد يُهدد مصالحها الجيوستراتيجية والاقتصادية في المنطقة، وأن تغير نظام الحكم في الجزائر سيُخسرها أكبر زبون للسلاح.
وتفيد مصادرنا أن زيارة العمامرة للروس لا تقف حَدّ التبرير والتهدئة بل تتعدى ذلك الى طلب الدعم الالكتروني الروسي أو ما يُسمى بالذباب الالكتروني، والذي استطاع أن يُحدث فتن دولية كبرى في أمريكا وبريطانيا وصعود اليمين المتطرف..
والسعي الى ضرب الوحدة الشعبية الجزائرية وخلق فتن باعتماد سياسة فّرق تَسُد وتفتيت اللُّحمة الجزائرية بين جميع الاطياف: عربي ومزابي وشاوي وترقي وقبائلي وخلق صراعات أيديولوجية.
ونُذكِّر بما فعله الذباب الالكتروني الروسي في الانتخابات الامريكية حيث عمد الى نشر الأخبار الكاذبة على شبكة فيسبوك، أخبار حاولت تشويه صورة “هيلاري كلينتون” دون التطرّق طوال الوقت للمُرشّح الثاني دونالد ترامب الذي أصبح رئيسًا للبلاد فيما بعد. بعدها، ودون سابق إنذار خرجت بعض الأخبار التي تحدّثت عن وجود اختراقات روسية لخوادم المُرشّحين الرئاسيين من جهة، ولخوادم وكالة الأمن القومي NSA من جهة أُخرى.
أما الصين، التي أزاحت فرنسا و أصبحت الشريك الاقتصادي الأول للجزائر و التي ضخت أموالا طائلة لمسؤولين جزائريين مقابل تيسير عملية الحصول على مشاريع اقتصادية و التربع على عرش الاستثمار حسب ما يؤكده تقرير صادر في 2017 عن المركز الجزائري للإعلام والإحصاء التابع للجمارك الجزائرية، والذي ذكر أن الصين صدرت للجزائر ما قيمته 8.31 مليار دولار أمريكي من السلع، أي 18.1% من إجمالي واردات الجزائر التي بلغت 45.95 مليار دولار، وجاءت فرنسا في المركز الثاني بواقع 3.75 مليارات دولار، ثم ألمانيا بـ3.21 مليار دولار، وإسبانيا بـ3.13 مليار دولار وتستحوذ الشركات الصينية العاملة في الجزائر على استثمارات فاقت 20 مليار دولار – مما يجعل الجزائر ثاني سوق للشركات المقاولاتية الصينية في أفريقيا بعد نيجيريا.
فللصين استراتيجية في افريقيا ولديها أبعاد في صراعها العالمي بين الامريكيين وهي في صراع على الهيمنة خاصة مع الضعف الذي تعيشه الولايات المتحدة الامريكية ومع وصول ترامب الذي أحدث ضجة في الولايات المتحدة.
وتُهيمن الصين على اقتصاد الجزائر كليًّا ممّا دفع بوزير الخارجية الفرنسي الأسبق لوران فابيوس بالقول أثناء زيارته للجزائر وحديثه مع وزير الصناعة الجزائري بأنه يجب الذهاب بعيدًا على المستوى الاقتصادي؛ لأن فرنسا تريد أن تبقى الشريك الاقتصادي الأول للجزائر، الجزائر ليست سوقًا، ولكنها شريك فعلي…
وتَغلغل الصين في الجزائر ليس فقط على مستورى الاستثمار بل تعدت ذلك الى صفقات السلاح والتعاون الفضائي ومشاريع ضخمة تهم البنية التحتية، ولعل هذا التقارب قد أثار حفيظة الاتحاد الأوربي اذ اعتبرت المحافظة الأوروبية للتجارة، "سيسيليا مالمستروم"، أن الجزائر لا تحترم اتفاقاتها التجارية مع الاتحاد الأوروبي، وهي بذلك تشجع المصالح الصينية، وأن قرارات الجزائر تساعد الصين، ولا بد من إيجاد حلول، أو سوف تلجأ إلى تفعيل البنود المتعلقة بحل النزاعات.
وتفيد مصادرنا بأن الجزائر قد طلبت من الصين دعما اتصاليا لاستراتيجيتها الجديدة الهادفة الى تشتيت وحدة الحراك الشعبي الجزائري واختراقه داخليا ومراقبته ورصد مدى تطوره.
أما داخليا، فلايزال موقف الجيش المتذبذب إزاء هذا الحراك والتصدع داخل صفوفه الدنيا، وانقسام قياداته بين متشدد وعقلاني ومتمرد رغم الاملاءات الفرنسية والإماراتية التي يخضع لها القايد صالح، اذ يُمكن ادراجها ضمن "استراتيجية نزع فتيل الأزمة"، و"الاستجابة لبعض المطالب دون تغيير النظام".
ويرجع ذلك إلى أن الجيش الجزائري هو الذي خلق الدولة الجزائرية، وهو فعل مؤسِّس مصدَر وصايةٍ لم يتخلص البلدُ منها بعد.
فقد تطور خطاب الفريق قايد صالح خصوصاً في الخطاب الأخير الذي ألقاه ، خلال لقائه يوم الثلاثاء الفارط بكبار قادة الجيش في منطقة تندوف جنوب غربي الجزائر، فلم يذكر ضمن 450 كلمة تضمّنها الخطاب، بوتفليقة، لا بصفته رئيساً للجمهورية ولا كوزير للدفاع والقائد الأعلى للقوات المسلحة، وفُهم من ذلك إعلان قطيعة بين الرئيس والجيش.
ولا يمكن لنا في الوقت الراهن الحديث عن أخذ الجيش مسافة من رئيس الجمهورية ومن زمرته نظرا "لغياب شفافية نظام السلطة الجزائرية"، رغم أن مصادرنا تأكد تآكله واحتداد الصراعات داخليا وأن القادة يخشون عمليات التمرد الفردي التي يمكن أن تتحول الى جماعية وأن ينخرط الجيش في الحراك الشعبي وتنخرم المعادلات وتنقلب موازين القوى.
فبقدر ما يمتلك الفريق القايد صالح تصوّراً إجمالياً للخروج من الأزمة؛ إلا أن بذرة سوء تفاهم قادمٍ تبقى قائمة.
ولعل هذه الوضعية تجعل من الجيش حَكَماً قائماً بالفعل، في الوقت الذي كان بوتفليقة يتشدق بأنه خلق توازنا في العلاقات بين المدنيين والعسكريين.
ورغم بقائه بعيدا ظاهريا، إلا أن فكرة "العودة إلى السياسة، إذا تجاوزت السلطةُ الخطَّ الأحمر" تخالجه. والخط الأحمر، يتمثل في طبيعة العلاقات مع الجار المغربي، وغايات الإسلاميين في الدولة؛ أو احتمال استفحال أزمة خلافة بوتفليقة.
ويحاول من جهته الحراك الشعبي المنادي برحيل النظام الى استيعاب الجيش وتحييده ودعوته للانشقاق والانضمام الى الحراك، وهي خطوة عاقلة، لتجنب تأليب الجيش ضدهم، على الرغم من أنه من النظام ذاته،
ومما لا شك فيه، أن الجزائر اليوم دخلت مرحلة أخذ ورد حول شكل الحوار بين السلطة وكل من المعارضة والحراك الشعبي، وهي تسعى الى التفاوض حول حدود التنازل بعد تحقق اعتراف السلطة بوجود أزمة حقيقية وبعد إقرار الحكم بوجود الطرف الآخر (الحراك والمعارضة). فالحراك الشعبي اليوم في الجزائر جعل أن التغيير لم يعد متوقفاً على الصراعات داخل النظام وتياراته، بين الحزب ورجال الأعمال والجيش، بالتالي فإن الحراك فرض الشعب طرفاً رئيسياً في ديناميات التحول.
وليس دائماً الوعي لدى النظام بالإصلاح هو ما يؤدي إلى انتقال ديمقراطي، ويكفي إدراك بعض النخب الحاكمة أن الأمور يصعب أن تستمر على حالها، لكي يُفتح بابٌ لتتجاوب مع الحراك الشعبي.
فامتحان الحراك الجزائري تحدده قدرته على إنتاج قيادته وعدم نبذ قيادات المعارضة وأن تتأقلم القيادات الجديدة التي ينتجها الحراك مع قيادات هذه المعارضة كي لا تتكرر تعثرات وأخطاء حصلت في بلدان عربية أخرى شهدت موجات من الربيع العربي مثل مصر وسوريا وتونس. فالحركات التغييرية تحتاج للتنظيم وللقبول بالدخول في مفاوضات ومساومات لا تنفي الحراك، لأن النضال الشعبي يستمر في موازاة المفاوضات والحوار.
صفوة القول، ان السلطة القائمة اليوم أوصلت البلاد إلى أزمة صراع بين إرادتها في الاستمراريّة وإرادة الشعب الجزائري في التغيير، والجزائر بحاجة الى أرضيّة سياسيّة تؤمّن لها الانتقال الديمقراطي السلمي المأمون، في ظل الأمن والحرية والتوافق، للانتقال من النظام المنبوذ إلى نظام جديد يحقّق التطلعات الى دولة القانون والديمقراطيّة الاجتماعيّة ذات السيادة وهي مطالبة بمحاولة تلافي انسداد أفق الخروج من الأزمة وعدم تعريض الجزائر لمخاطر من التربص وفتح سلميّا الباب واسعاً للخروج الآمن من الأزمة وفق خارطة طريق للتغيير.
*نادية المسغوني- باحثة في الشأن الجزائري-