1
بقلم نبيل الاحمدي-
إستبدت بنا الأزمات وكأنها قدر ننام على ترانيمه وعلى وقعه نستفيق، لكن ما يطرق باب تونس اليوم ولعمري أزمة غير مسبوقة غير كل تلك الأزمات، أزمة "مستجدة" تلبس فيها السياسي بالدستوري وتمترس فيها الخصوم بالجبهات.
تشير ساعة الأزمة هذه، إلى أننا لم نبارح شوطها الأول، شوط نالت فيه حكومة المشيشي 2 ثقة البرلمان بأغلبية مريحة وفازت فيه بحزام برلماني أكبر وأقوى، بعد أن نجحت منظومة التحالف القديم المتجدد في حشر العصفور النادر في الزاوية وتوزيع غنيمة الحقائب بما يرضي الكبار والصغار .
شوط إنتصر فيه المشيشي لشغفه وطموحه بالبقاء في سدة الحكم، وسار على نهج من سبقه في القصبة ذات يوم (يوسف الشاهد) مقبلا على مغريات السلطة متنكرا لمن انتشله من الظل ولمن ألقى به مغمورا فتيا في دائرة الضوء وصنع القرار، وغير مكترث بحجم التنازلات التي قدمها وسيقدمها ولا بتقلب الزمن والحلفاء على الحكام كلما إنتهت الحاجة إليهم.
شوط فرض فيه رئيس البرلمان راشد الغنوشي كلمته وخياراته على الجميع وعلى كل من تحداه وعلى رأسهم من نازعه لأشهر على مفاتيح القصبة، بعد أن أوقف السطوة الرئاسية على الحكومة معلنا رسميا نهاية عهد حكومات الرئيس، منتصرا لحليفه السجين الذي جاهر بما كتمه الشيخ طيلة أشهر، حين أفصح عقب جلسة منح الثقة لحكومة المشيشي 1 وعلى الملأ عن تفاصيل خطة عزل الرئيس وتقليم أضافره في القصبة.
شوط إكتفى فيه ساكن قرطاج كعادته بالتلويح بخطابات الوعد والوعيد ، ولسان حاله يقول " هيهات لن تمروا ولن تفلح خطتكم فأنا الرئيس وبيدي ورقة الدستور.. الدستور الذي يعود لي حصرا تفسيره في غياب المحكمة الدستورية".
وفيما تشير التطورات إلى أن كل الضغط أصبح مسلطا على قرطاج وبأن رئيس الجمهورية أصبح على وشك خسارة المواجهة، أمام تحدي هشام المشيشي بمعية "حشده" البرلماني ، لتحذيراته وعرضه للتحوير على البرلمان ومن بعد ذلك عقد إجتماع بحكومته الجديدة، فإن الأزمة التي دخل على خطها أساتذة القانون الدستوري بين مناصر للرئيس وآخر للحكومة والبرلمان وفق قراءات متباينة، لم تبح بعد بنهايتها.
الازمة دخلت للأسف مربع اللا عودة وعنوان المرحلة الحالية هو " لا تراجع" لأن التراجع قيد أنملة، أو خطوة إلى الوراء سيعني خسارة المعركة، ولأن التراجع سيكلف المتنازل خسائر سياسية لا يمكن حصرها، فصورة الرئيس وشعبيته لن تبقى كما كانت حين يتراجع بل أن التراجع سينسف أي مستقبل سياسي لأستاذ القانون الدستوري الذي أقسم على حماية الدستور و وعد بأن لا يتسامح مع الفاسدين وبأن لا يستقبل كل ذي شبهة حتى وإن كان وزير.
كما أن التراجع بالنسبة لرئيس الحكومة سيكون بمثابة الانتحار السياسي وهو المتعطش لإستدامة بقاءه في القصبة، فيما سيكون بمثابة الزلزال الذي يهدم أركان تحالف ال 144 المتشكل حديثا في البرلمان.
وفيما قد يذهب رئيس الحكومة إلى مزيد من التصعيد إما بأداء اليمين أمام البرلمان و تجاهل القسم الرئاسي، لا يبدو أن موقف رئيس الجمهورية قد يلين، وهو ما يجعلنا إزاء أزمة غير مسبوقة تهدد كيان الدولة المتهالك.
فكيف يمكن لحكومة أن تباشر عملها دون المرور بالقسم الرئاسي؟ وأي مستقبل للعلاقات بين رؤوساء السلط الثلاث في حال استمر الصدام؟
كان بإمكان رئيس الحكومة ومن والاه أن يستبعدوا الوزراء الذين تلاحقهم شبهات الفساد وتغييرهم بآخرين من نفس الخندق وتنتهي القصة هناك وقد كان لديهم الوقت والخيارات ذلك أن رئيس الجمهورية حذر قبل عرض التعديل الحكومي على البرلمان بأنه يرفض أداء "من تلاحقهم شبهات الفساد" اليمين في القصر، وقد كان بإمكان رئيس الجمهورية أن يتفادى الازمة و يستقبل الحكومة التي حضيت بثقة البرلمان رغم التحفظات، وله إن أراد أن .يستغل أخطاء خصومه سياسيا بكشف فساد الوزراء أمام الشعب مثلما فعل خصومه مع حكومته، حكومة الفخفاخ، لكن لا هذا حدث ولا ذاك.
الآن هو شوط تكسير العظام بكل ما تحمله الكلمة من معنى، استبد فيها العناد بالخصوم وغابت فيه الحكمة والرغبة في تجاوز الخلافات.
ولعل الأتعس من تمترس الخصوم بمواقعهم ومواقفهم هو غياب الوسيط القادر على جر الجمع "المتنابز" و"المتناحر" إلى طاولة الحوار وصياغة مخرج يحفظ صورة الرؤساء الثلاث ويؤمن لهم خروجا إن لم يكن مشرفا فبأخف الأضرار.
هنا غاب الاتحاد العام التونسي للشغل حتى الآن، وغاب معه الحل والبديل ، فيما يسوق البعض إلى أن أبغض الحلول هو نقل الازمة و الصراع إلى إحدى عواصم الأشقاء والجيران بحث 0، حينها فلنقرأ على هذه التجربة السلام فقد نجحنا في تصدير أزمتنا بدل ديمقراطيتنا.