يسري اللواتي-
من الفرادة أن تحتفظ الذاكرة الإنسانية في دول العالم الأول والثالث، تميز وأسبقية تونس في تجربة الغاء تجارة العبيد سنة 1846، رغم أن “الكليشيهات” المنتشرة الآن تصم الآذان بريادة دول الغرب في مجال الدفاع عن حقوق الانسان.
قبل أكثر من قرن، كان من اللافت أن تعلن إحدى الإيالات التابعة للعثمانيين في شمال افريقيا، عن الغاء تجارة العبيد، في دولة كانت تعاني في ذلك الوقت من ركود التجارة وقرب حلول الغازي الأجنبي بعد حوالي أربعين سنة.
تجربة الثلاث مراحل …
عموما مرت تجربة الغاء الرق في تونس بثلاث مراحل كانت أولها اصدار أحمد باي الأول في 6 سبتمبر 1841، امرا يقضي بمنع الاتجار بالرقيق، ليلحق ذلك بعد خمس سنوات اصدار أمر علي بتاريخ 23 جانفي 1846 متعلق بإلغاء تجارة الرق، ثم صدور أمر علي آخر بتاريخ 29 ماي 1890 يتعلق بالأحكام المتعلقة بإبطال العبودية بالمملكة.يقضي بمنع الإتجار في الرقيق وبيعهم في أسواق المملكة كما أمر بهدم الدكاكين التي كانت معدة في ذلك الوقت لجلوس العبيد بالبركة (سوق الصاغة حاليا) ثم أصدر أمرا في ديسمبر 1842 يعتبر من يولد بالتراب التونسي حرا ولا يباع ولا يشترى، وكانت هذه البادرة سباقة في العالم العربي وحتى العالم الغربي الذي كان في ذلك الوقت يتغنى بـ”النهضة الفكرية”.
في هذا السياق يقول المؤرخ التونسي أحمد ابن ابي الضياف في كتابه “اتحاف أهل الزمان” أن أحمد باي كان “بعد أن كان قد تدرّج في الوصول إليه (الغاء تجارة الرقيق)، فأمر في رجب من سنة سبع وخمسين (ومائتين وألف) بمنع بيع الرقّ في السوق كالبهائم. وأسقط المكس الموظّف على ذلك (…) وهدّم الدكاكين الموضوعة لجلوسهم وبقعة القائد وتسمّى القفص وسكت عن بيعهم في غير السوق. ثمّ منع خروج المماليك من العمالة للتجارة فيهم (…) ثم صدر أمره أواخر سنة ثمان وخمسين بأنّ المولود في المملكة التونسيّة حرّ لا يباع ولا يشترى”.
دوافع الاعلان عن القرار…
وبالعودة الى الظروف الموضوعية التي دفعت بالباي الى اعلان القرار “السبّاق”، يعتبر ابن أبي الضياف في نفس الكتاب أن أحمد باي”يميل بطبعه إلى الحضارة التي أساسها وملاك أمرها الحرية” حسب عبارته.
تباعا فقد تجلت إرادة الباي من خلال إصداره أمرا عليا في 23 جانفي 1846، وجه أساسا الى علماء مشايخ ومفتيي تونس يتضمن اعلامهم بإلغاء الرق.
وجاء في الأمر (نسخة مكتوبة على موقع وزارة العدل)،”وبعد فإنّه ثبت عندنا ثبوتا لا ريب فيه أن غالب أهل أيالتنا في هذا العصر لا يحسن ملكية هولاء السودان الذين لا يقدرون علي شيء علي ما في أصل صحة ملكهم من الكلام بين العلماء إذ لم يثبت وجهه وقد أشرق بنظرهم صبح الإيمان منذ أزمان وأن من يملك أخاه علي المنهج الشرعي الذي أوصى به سيد المرسلين آخر عهده بالدّنيا وأول عهده بالآخرة حتّى أن من شريعته التي أتى بها رحمة العالمين عتق العبد علي سيده بالإضرار وتشوف الشارع إلى الحرية فاقتضى نظرنا والحالة هذه رفقا بأولئك المساكين في دنياهم وبمالكيهم في أخراهم أن نمنع الناس من هذا المباح المختلف فيه والحالة هذه خشية وقوعهم في المحرّم المحقق المجمع عليه وصد إضرارهم بإخوانهم الذين جعلهم الله تحت أيديهم وعندنا في ذلك مصلحة سياسية منها عدم إلجائهم إلى حرم ولاة غير ملتهم فعينا عدولا بسيدي محرز وسيدي منصور والزاوية البكرية يكتبون لكل من أتى مستجيرا حجة في حكمنا له بالعتق علي سيده وترفع إلينا لنختمها”.
يتضح من خلال ما ورد في نص الأمر أن الباي خص “العبيد السودان” أي السود بالقرار، خاصة وأنهم كانوا الأكثر انتشارا في الممكلة، مقابل انحسار تجارة الرقيق بيض البشرة بحكم تراجع القرصنة في ذلك الوقت.
كما يلاحظ lالمنزع الديني من خلال نص الأمر أن من بين دوافع اعلان قرار “المنزع الديني” للباي آنذاك وهو الذي قال في نص الأمر ” وقد أشرق بنظرهم صبح الإيمان منذ أزمان”.
الأمر الذي فصل الاعلان…
ولعل الأمر الذي فصل الموضوع من الناحية القانونية والاجرائية هو اصدار امر علي بتاريخ 29 ماي 1890 نص على جميع الأحكام المتعلقة بابطال العبودية بالمملكة التونسية، وقد ورد في هذا الأمر وفق النصوص المنشورة بموقع وزارة العدل، 4 فصول قانونية ضبطت بشكل أكثر تفصيلا قرار الغاء تجارة العبيد وعقابه.
وجاء في الفصل الأول من الامر أنه ” لا عبوديّة بمملكتنا ولا يجوز وقوعها فيها، فكلّ إنسان حرّ مهما كان جنسه أو لونه ومن يقع عليه ما يمنع حريّته أو يخالفها، فله أن يرفع أمره للمحاكم”.
وورد في الفصل الثاني “مستخدمو السّودان أو السودانيّات في مملكتنا يلزمهم في مدّة ثلاثة أشهر من تاريخ صدور أمرنا هذا أن يعطوا من لم يعط إلى الآن ممّن ذكر حجّة بالعدالة مكتوبة عن إذن القاضي بالمكان أو العامل أو نائبه تقتضي أنّه حرّ غير مملوك ومصروف الحجّة المذكورة علي المخدوم”.
عموما فقد تطرق الفصلان الثالث والرابع إلى الأحكام وعواقب كل من خالف الأمر العلي، فجاء في الفصل الثالث مثلا “من خالف أحكام الفصل السّابق تعاقبه المحاكم الفرنسويّة إن كان أجنبيّا أو المحاكم التونسيّة إن كان تونسيّا بخطيّة قدرها من 200 إلى 2000ريال”.
أما الفصل الرابع فنص على انه” من يثبت عليه أنّه اشترى إنسانا أو باعه أو حازه بوجه الملكيّة يعاقب بالسّجن من ثلاثة أشهر إلى ثلاث سنين”.
*جل المعطيات التاريخية الواردة بالمقال مقتطفة من منشورات موجودة بالموقع الرسمي لوزارة العدل