حتى لا ينحرف إرث حشاد .. وحتى لا تخيب رمية النرد

تسقط الامبراطوريات عندما تفقد مبررات وجودها ، وينهار السلاطين و الملوك و الرؤساء و الزعماء متى يغفلون عن سباقهم مع التاريخ ، وتتوقف دورة الحياة عندما نتعسف على قواعد الارض … هي تلك القاعدة الخلدونية المتعلقة ببيولوجيا الحضارات والانظمة و التنظيمات.

فلا يوجد حضارة عصية عن الاندثار او الغياب، فلقد رحل الفراعنة في بضعة ايام وسقط الروم من بعد غلبهم، و ذاب نابليون في صحراء حلمه و اذاب الجليد اسطورة النازية وسرّع ديالكتيك السقوط بالامويين والعباسيين والعثمانيين في اكبر تمظهر واقعي للاية القرانية التي تقول تلك الايام نداولها بين الناس.

فقط اريد القول من خلال هذه الديباجة انه لا يوجد تنظيم فوق التاريخ، وكل التنظيمات، سياسية كانت او نقابية و حقوقية، هي حالة زمنية تفهم من داخل سياقها المعيش، وان الاحساس بالانتماء عندما يتضخم يتحول الى عمى ايديولوجي، لذلك وجب تشغيل الية النقد من اجل استمرار الفكرة و ديمومة الرصيد، و هذا هو بالفعل الامتحان الاكبر لاكبر منظمة شغيلة في تونس سبقت دولة الاستقلال في نشأتها و تكونها، و هو الاتحاد العام التونسي للشغل.

اذ لا يمكن الانكار بان ذلك الشعار الذي رفعه الاتحاديون في شوارع البلاد (عاش عاش الاتحاد اكبر قوة في البلاد) طيلة الخمس سنوات الماضية في تجلّ اسطوري ضد كل محاولات ضربه و تدجينه، هو تكثيف مختصر للراس مال الرمزي الذي تحصل عليه الاتحاد منذ 1946، كان تجليا اسطوريا مزج عفوية العامة وانضباط القواعد الذي ترجمته سريعا القيادة المركزية الى حضن اوسع هو الحوار الوطني كتقليعة جديدة ميزت العقل السياسي التونسي في محيط اقليمي مازال يتخبط في عقد القبيلة والاحتراب و مازالت لعبة الدم هي المحدد الرئيسي للعيش الجماعي.

انجاز الاتحاد العام التونسي للشغل هو استثاء يستحق الثناء الاكاديمي بتوسيع دائرة البحث عن موقعه الاجتماعي المتداخل وظيفيا مع موقعه السياسي، وهو الموقع المحبذ للمنظمة الشغيلة والذي يستبطنه " اولاد الاتحاد"في مدارات منطوقهم اليومي، حيث لا يكتفي الاتحاديون بفضاء التجاذب المهني، وانما هم سجاليون و جداليون واشكاليون في مقارعة السلطة، و لم ينسحبوا ابدا من خطوط المد والجزر السياسي منذ الاستقلال.

لذلك وجب الاقرار بان تدخل الاتحاد في اللعبة السياسية هو مسالة محسومة تبررها الاحقية التاريخية، احقيتهم في كتابة النص الوطني ونحت الوجدان الجماعي للدولة والحضور الدقيق في مفاصل تطورها والاحساس بالعمق الاجتماعي، احقيتهم ان يكونوا في موقع الشاهد والمراقب لانتكاساتها، فالاتحاد هو حالة عاطفية تفسرها ادوات التحليل السوسيو نفسي، هو جزء من ذاكرة المعيش وجزء كبير من الذاكرة السياسية الحية التي اربكت بورقيبة واسقطت بن علي و سحبت البساط من تحت الترويكا الذين اعتقدوا في يوم ما بان التاريخ اعلن نهايته بوصولهم للسلطة.

ولكن بعد كل هذا الرصيد الذي يختزل سبعين سنة من الحضور في الفضاء العمومي، وبعد كل الانجازات المحققة يبدو ان احفاد حشاد و ابناء عاشور والتليلي بدأت تغالطهم صورهم المتضخمة في النهر دون علم بان النهر لا تعشقه الا الحيوانات الصغيرة الحجم لانها تبحث عن بدائل مرفولوجية لاجسامها في المياه الراكدة.

اصبحنا نشاهد العشوائيات الخطابية والتهديد والوعيد و داية نشوء دكتاتوريات قطاعية بدل من مقولات الاقتصاد التضامني، اصبحنا نرى مساندات بلا معنى لاي حراك اجتماعي، والتبجح بالوقوف وراء الحرائق الاجتماعية مثلما حدث في الكاف و قرقنة و السكوت على ازمة الحوض المنجمي و بتروفاك وتعطل المصالح الحيوية للمواطن في مستشفى صفاقس، دون ان ننسى احد الايام التي اقفلت فيه النقابة الاساسية للنقل محطات الميترو والحافلات مكلفة المواطن عناء التنقل في مشهد تراجيدي يحيلنا الى مفارقة كبرى مفادها هو كيف للمدافعين على الطبقات المسحوقة يتسببون للطبقات المسحوقة بدورها في كل ذلك التعب.

ماغلومانيا قطاعية، تسير بغرور المنتشي بانتصار الحوار الوطني و لكنها تجهل ايضا ان المناكفات المجانية تحيل الى الخسارات الكبرى ، وكأن هناك فاصلا مجاليا بين القيادة المركزية والنقابات الاساسية والمهنية، وكأن حتمية الحيرة هي قدر لكل مواطن يشاهد نفس الاتحاد المتحصل على جائزة نوبل هو نفسه يعيش معارك دونكشوتية لا معنى لها.

تقول الحكمة، ان سنوات العشرين هي سنوات الضجيج، وسنوات الثلاثين هي سنوات التدرب على الحماقات بينما سنوات الاربعين هي نضج الحماقات، الخمسون للهدوء و الستون للقرب من الله و السبعون هي سنوات تمازج الالوان، فيجب على الاتحاد و هو الذي عاتب السبعين الوعي بان كثرة الالوان تعيق الرؤية، فوحده الوعي بالزمن و بالعمر ينتج العراقة، و للاتحاد خيارات حارقة الان، في هذه اللحظة المتشابكة التي نعيشها : اما المحافظة على ارث حشاد المتلخصة في مقولة احبك يا شعب او الانزلاق في متاهات التجاذبات الداخلية والسقوط في بيروقراطية جامدة وبالتالي تخيب رمية النرد و يقع بين مفترس وفريسة كما قال درويش.

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.