كانت سنة 2013 مليئة بالمفاجات والأحداث على جميع المستويات وفي كل المجالات.. المؤلمة منها والسارة، حيث تواترت الأحداث في المجال الثقافي مثلا طوال هذا العام، بين محطات إيجابية وأخرى سلبية ترسخ في الذاكرة.
تونس بلد الموسيقى والمسرح والسينما، بلد المهرجانات الدولية، بلد تنوع الثقافات وانصهار الحضارات.. عاشت على امتداد العام الثالث بعد الثورة عديد الأحداث الهامة في تاريخها الحديث والتي ربما لم تشهد مثلها في عهد المخلوع بن علي من حيث الكم على الأقل خاصة في جانبها المؤلم إن صح التعبير.
عندما يبدع المثقفون…
لعل مشاركة عدد من المبدعين التونسيين بمجموعة من الأعمال السينمائية والمسرحية ، وحتى الغنائية في مختلف المهرجانات العالمية والعربية، أضفى صورة إيجابية على مستقبل الابداع التونسي على النطاق العالمي، حيث سجل مثلا فيلم "باستاردو" لنجيب بالقاضي حضوره في المسابقة الرسمية للمهرجان العالمي للفيلم بتورونتو، كما كانت له مشاركة متميزة في مهرجان الفيلم بأبوظبي في نوفمبر 2013.
من جهته تحصل الفنان فتحي الهداوي على جائزة أحسن ممثل في مهرجان وهران السينمائي الدولي السابع، عن دوره في فيلم "الخميس العشية" الذي فاز بدوره بالجائزة الكبرى للمهرجان مناصفة مع الفيلم السوري "مريم" للمخرج باسل الخطيب.
كما شارك المخرج الشاب مهدي البرصاوي في مسابقة الأفلام القصيرة للدورة 13 لمهرجان بيروت الدولي للسينما بشريطه القصير "بوبي" والذي يُعدّ المشاركة التونسية الوحيدة في هذه التظاهرة الفنية العربية والدولية، بعد أن تحصل على شهادة تقديرية عن فيلمه هذا في مهرجان وهران السينمائي في نفس السنة.
كما اختارت مؤسسة تكريم الشخصيات العربية برام الله الفلسطينية الفنان لطفي بوشناق كأفضل شخصية عربية في مجال الموسيقى لسنة 2013، إضافة إلى النجاح الباهر الذي حققه بوشناق في دار الأوبرا المصرية بعد أدائه لأغنيته الجديدة "الكراسي".
بدورها تحصلت مسرحية "انفلات" لمخرجها وليد دغسني على ذهبية مهرجان المسرح الحر في الأردني لأفضل عمل مسرحي متكامل، في حين أسندت الهيئة العربية للكتاب الجائزة الثالثة لأفضل نص مسرحي، لنص مسرحية "الناظرون الى النجوم" من تأليف المسرحي حمادي المزّي.
تسييس الثقافة !
رغم الصورة اللامعة التي يحاول المثقف والفنان أن يضفيها على صورة بلاده في أي مكان من العالم، فإن محاولات السياسيين إقحام المسائل الثقافية في الحياة السياسية كثيرا ما تحيد بالهدف الأساسي لأي مبدع، والمتمثل خاصة في حرية الرأي والتعبير سواء بالكلمة أو الجسد.
وفي هذا السياق مثلت حادثة رشق وزير الثقافة مهدي مبروك بالبيض والتي سُجن على إثرها الممثل والمخرج المسرحي نصر الدين السهيلي نقطة سوداء في المشهد الثقافي لهذه السنة لأن زج سياسي بممثل في السجن، مهما اختلفت المواقف من القضية، امر يُحسب على الوزير مهدي مبروك وليس له.
كما شهد النصف الثاني من سنة 2013 حملة من الاعتقالات والقضايا المرفوعة ضد عديد الفنانين وعلى رأسهم مغنو الراب على غرار ولد الكانز وكلاي بي بي جي اللذين حوكما بالسجن على خلفية أغنية لهما أدياها ضمن فعاليات مهرجان الحمامات الدولي، واعتبرها الأمنيون مساسا بسمعتهم واعتداء على حرمتهم.
زد على ذلك ما تعرض إليه كل من الممثلين لطفي العبدلي ومحمد علي النهدي من اعتداء لفظي ومعنوي من قبل بعض المجموعات، حيث اقتحم ملتحون يوم 14 جويلية عرض مسرحية "الزمقري" للنهدي الابن في سبيطلة في حين قامت قوات الأمن بالانسحاب تاركة الفنان وفريق العمل دون حماية، كما منع عدد من السلفيين يوم 15 أوت الفارط عرض مسرحية "مايد إن تونيزيا" للعبدلي بعدما اقتحموا دار الثقافة في منزل بورقيبة من ولاية بنزرت مهددين بالتصعيد في صورة عرض المسرحية.
تألق رغم النقائص!
تعودت تونس الاحتفاء بكل ما هو جميل ومتألق ، لذلك و رغم الظروف الصعبة التي مرت بها طيلة 2013، من اغتيالات سياسية واغتيالات للجنود والأمنيين فيها، استطاعت الايفاء بمواعيدها الثقافية المتمثلة بالأساس في مهرجان قرطاج الدولي ومعرض تونس الدولي للكتاب وأيام قرطاج المسرحية…
لقد تزامن مهرجان قرطاج مع ثاني اغتيال سياسي في تونس منذ الثورة والذي راح ضحيته الشهيد محمد البراهمي يوم 25 جويلية ، تلته أحداث الشعانبي التي استشهد فيها 7 من جنودنا البواسل، و و لكن ذلك لم يمنع مواصلة هذه التظاهرة بعد انتهاء فترة الحداد طبعا، وتحقيق قفزة نوعية على حد تعبير مدير دورتها الـ49 مراد الصقلي سواء على مستوى البرمجة أوالبنية التحتية بالاضافة إلى التقنيات المتطورة التي اعتمدت في الجانب التنظيمي.
بدوره انطلق معرض الكتاب في دورته الثلاثين يوم 25 أكتوبر وسط ظروف صعبة عاشتها البلاد آنذاك على إثر استشهاد 7 عناصر من الحرس الوطني على يد بعض الارهابيين، لكنه صمد أمام قلة الاقبال حتى يثبت للعالم أن مكانته تكمن في البقاء لا فقط في نسبة المبيعات أو عدد الوافدين الذي حتمت الظروف تراجعه عن الدورات السابقة، كما تميزت الدورة بنوعية الكتب خلافا للسنة الفارطة والتي طغى عليها الكتاب الديني.
كما لاقت أيام قرطاج المسرحية منذ أول يوم لافتتاحها الموافق لـ22 نوفمبر الفارط عديد الصعوبات، الأمر الذي أسال ضدها حبر الانتقادات المحلية والعالمية خاصة على مستوى التنظيم وعدم الحياد في اختيار عرضي الافتتاح والاختتام، إلى جانب انتهاء التظاهرة دون إسناد جوائز تُذكر خلافا لما جرت عليه العادة، إلا أن هناك عديد العروض التي نالت إعجاب الجمهور التونسي والأجنبي على حد السواء مثل "مسرحية ريشارد الثالث" لجعفر القاسمي و"ستاند باي" لمعز القديري و"تسونامي" لفاضل الجعايبي وغيرها من الاعمال التي وصفت بالمتألقة.
أعمال أثرت الساحة…
عرفت الساحة الثقافية خلال 2013 كذلك مجموعة من التظاهرات الفنية الثنائية -إن صح التعبير- التي أثرت المشهد الثقافي في البلاد على غرار تنظيم الدورة الثانية للمهرجان الدولي لأفلام حقوق الانسان بتاريخ 24 سبتمبر، والذي تميز باحتوائه لفيلم "الشهيد السعيد" الذي حاول من خلاله كل من المخرج حبيب المستيري والمنتج نصر الدين السهيلي إبراز المسيرة النضالية للشهيد شكري بلعيد وتكريمه.
وانطلقت كذلك تظاهرة "في حومتي" التي نظمتها الجمعية الشبابية للثقافة وتنمية القدرات يوم 26 سبتمبر، بهدف اكتشاف المواهب والقدرات الابداعية في مجال الرقص والتي يمتلكها الشباب خاصة في الأحياء الشعبية.
كما عرفت ساحة باردو يوم 01 أكتوبر وتزامنا مع "اعتصام الرحيل"، تنظيم تظاهرة من قبل المعتصمين تحت عنوان "باردو.. تقرأ تكتب تغني ترقص" والتي عرفت إقبالا جماهيريا مكثفا باعتبار إطارها العفوي والمجاني الذي أتيح لعامة الناس ومختلف الشرائح العمرية والفئات الاجتماعية.
إن المطّلع على حالة الثقافة ومستوى تدنيها في بلدان ما يسمى بالربيع العربي لا يملك الا الاعتراف بأن تونس من بين أكثر هذه الدول التي استطاعت بطريقة أو بأخرى تخطي العقبات السياسية والاقتصادية التي فرضها القدر عليها طوال سنة 2013، التي لا يفصلنا عن توديعها سوى أيام قليلة، والتي سيختتمها ثقافيا واحتفاليا وسياحيا المهرجان الدولي للواحات بتوزر الذي انطلق من 27 ديسمبر الحالي ليختتم فعالياته في الـ30 من آخر أشهر السنة.
بعيدا عن السياسة والاغتيالات والأحزان التي ستطويها بإذن الله صفحة 2013، لم يتبق لنا سوى أن نقول لكم كل عام وتونس وشعبها وثقافتها بألف خير..