أدت مرونة الاقتصاد الأمريكي إلى تحول جذري في التوقعات المرتبطة بنموه. فخلال النصف الأول من العام الماضي، اتسمت توقعات نمو الاقتصاد الأمريكي في عام 2024 بتشاؤم واسع النطاق نظرا للرياح المعاكسة الكبيرة، المتمثلة في ارتفاع معدل التضخم الذي أنهك القوة الشرائية للأسر، واضطراب أسواق السلع الأساسية، ودورة التشديد القياسي للسياسة النقدية من قبل بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي. ولذلك بدا أن الركود أمر لا مفر منه، وتركزت المناقشات المرتبطة بتوقعات الاقتصاد الكلي على الموازنة بين احتمالات الهبوط الاقتصادي “القاسي” أو “الناعم”.
يعد إجماع استطلاع بلومبرغ أداة مفيدة تكشف توقعات السوق ووجهات النظر المتغيرة حول تطورات الاقتصاد الكلي الرئيسية.
يرصد هذا الاستطلاع القياسي توقعات المحللين ومراكز الفكر وبيوت الأبحاث، ويقدم مجموعة من التوقعات، بالإضافة إلى نقطة متوسطة لتوقعات السوق. في يوليو من العام الماضي، وصل الإجماع بشأن نمو الاقتصاد الأمريكي في عام 2024 إلى مستوى منخفض بلغ ،%0.6 ثم أخذ يتصاعد بوتيرة ثابتة، وارتفع بأربعة أضعاف ليصل إلى %2.4 هذا العام، على خلفية المؤشرات الاقتصادية الأفضل من المتوقع، بما في ذلك النمو الكبير في الناتج المحلي الإجمالي خلال الربع الأخير من عام .2023 وتشير التوقعات إلى أن الاقتصاد لا يزال في وضع جيد، وسوف يتباطأ تدريجيا مقارنة بالنمو المحقق في عام 2023 الذي بلغت نسبته %2.5 .
في هذه المقالة، سنقوم بتحليل التطورات في ثالثة قطاعات إنتاج أساسية، ومؤشراتها الرئيسية، التي تكمن وراء مرونة الاقتصاد العام وتباطؤه التدريجي.
أولا ، ظل قطاع الخدمات قويا بعد عودة األمور إلى طبيعتها في مرحلة ما بعد جائحة كوفيد.19- وأظهرت أرقام الناتج المحلي
الإجمالي للربع الأول من العام الحالي أن استهلاك الخدمات نما بمعدل سنوي الفت قدره ،%4 وهو أعلى بكثير من النمو السنوي البالغ %2.3 في عام .2023
وتشير أحدث إصدارات بيانات مؤشر مديري المشتريات إلى أن التوقعات لا تزال مستقرة. مؤشر مديري المشتريات هو مؤشر قائم على الاستطلاعات يرصد التحسن أو التدهور في النشاط الاقتصادي. يعتبر حاجز الـ 50 نقطة في المؤشر بمثابة عتبة تفصل بين االنكماش )أقل من 50( والتوسع )فوق 50( في أوضاع الأعمال. وصل مؤشر مديري مشتريات قطاع الخدمات إلى ذروته عند 67.1 نقطة في نوفمبر ،2021 حيث تعافى هذا القطاع بقوة من الانخفاض الذي شهده في بداية جائحة كوفيد. ومنذ ذلك الحين، متأرجحا فوق أو بالقرب من حاجز اعتدل المؤشر بشكل طفيف، الـ 50 نقطة الذي يشير إلى التوسع. ويوفر أداء قطاع الخدمات الدعم للاقتصاد، فهو يمثل أكثر من %70 من النشاط الإجمالي.
ثانيا لتصنيع إلى أدنى مستوياته، ، وصل الانكماش الدوري لقطاع وانتقل القطاع نحو مرحلة التعافي. خلال جائحة كوفيد، ارتفع استهلاك الأسر للسلع بشكل استثنائي فوق مستواه الاعتيادي، بسبب عمليات الإغلاق والقيود التي عطلت أنماط الإنفاق الطبيعي على الخدمات. وبعد أن وصل إلى ذروته عند مستوى 64 نقطة في مارس ،2021 بدأ مؤشر مديري مشتريات قطاع التصنيع في اتجاه هبوطي، حيث تباطأ الإنفاق على السلع تدريجيا مع عودة أنماط الإنفاق إلى طبيعتها.
ودخل مؤشر مديري مشتريات قطاع التصنيع النطاق الانكماشي في نهاية عام ،2022 لكنه استقر في النصف الثاني من عام ،2023 وتجاوز عالمة 50 نقطة إلى النطاق التوسعي في مار من هذا العام. ورغم أن قوة هذا التعافي لم تتحدد بعد، فإن نهاية الانكماش في قطاع التصنيع توفر دعما إضافيا للاقتصاد.
ثالثا ، استقر قطاع البناء بعد فترة من الانكماش. وفي العام الماضي، أدى ارتفاع أسعار الفائدة وتشديد معايير الإقراض من قبل البنوك إلى زيادة تكاليف الاقتراض وتقليل توافر الائتمان، مما أدى إلى تأثير سلبي على البناء. وكانت المؤشرات الرئيسية لقطاع البناء، مثل تصاريح البناء وبدء بناء المساكن الجديدة، تنكمش بمعدلات تزيد عن %20 على أسا سنوي. وكان التراجع الحاد لبعض في إثارة المخاوف، لان معدلات المؤشرات سببا النمو السلبية بهذا الحجم كانت سببا في توقع حالات الركود تاريخيا .
وبحلول نهاية عام ،2023 استقرت العديد من المؤشرات، وتحسنت المقاييس الرئيسية مثل تصاريح البناء، وبدء بناء المساكن الجديدة، ومتوسط أسعار البيع على أسا سنوي، مما يشير إلى أن نشاط البناء لن يشكل عبئا على الاقتصاد الكلي مجددا.
بشكل عام، تشير البيانات الواردة من القطاعات الاقتصادية الرئيسية إلى أن نمو الاقتصاد الأمريكي يشهد حالة من الاستقرار، وأن التباطؤ سيكون تدريجيا. ومن وجهة نظرنا، على الرغم من بقاء أسعار الفائدة مرتفعة لفترة أطول، من غير المرجح أن يحدث ركود في الواليات المتحدة هذا العام، حتى لو لم يكن استهلاك الأسر متوافقا مع توقعات النمو المتفائلة الحالية.