بقلم جنات بن عبد الله-
أثارت النسخة المسربة من" برنامج الإصلاحات للخروج من الأزمة يوم الاثنين 4 جانفي 2022 من قبل إحدى منظمات المجتمع المدني لبرنامج الحكومة، جدلا واسعا وردود أفعال مناهضة لتوجهها.
وفي هذا السياق، استنكرت الهيئة الإدارية للاتحاد العام التونسي للشغل المنعقدة بتاريخ 4 جانفي 2022 ما يكتنف المفاوضات مع صندوق النقد الدولي من غموض وسرية وتعتيم وغياب لأي صيغة تشاركية داخلية، داعية الى الشفافية وحق النفاذ الى المعلومة واشراك المنظمات الوطنية وسائر مكونات المجتمع المدني في تسطير مسار المفاوضات.
والإصلاحات الواردة في البرنامج المسرب الذي اكدته وزيرة المالية في الندوة الصحفية التي انعقدت بتاريخ 28 ديسمبر الماضي، سيتم التوجه بها الى صندوق النقد الدولي خلال الثلاثي الأول من السنة الجارية جاءت تحت عنوان "برنامج الإصلاحات للخروج من الأزمة".
وركزت هذه الإصلاحات على الإجراءات قصيرة المدى التي تدخل في اطار قانون المالية لسنة 2022، وهي تقوم على 4 محاور ممثلة في اصلاح سياسة المالية العمومية، والسياسة المالية، والسياسة النقدية وسياسة الصرف، والإصلاحات المتعلقة بمناخ الأعمال ومقاومة الفساد والانفتاح.
ولئن ركزت الوثيقة المسربة على "إصلاحات" سياسة المالية العمومية فذلك يعود الى حاجة هذه الحكومة الى تمويل عاجل من صندوق النقد الدولي بما يفترض تحيين حاجيات التمويل وتوفير حجة لخبراء الصندوق على عزم هذه الحكومة على استكمال "الإصلاحات" الموجعة ذات العلاقة بعجز ميزانية الدولة من جهة.
ومن جهة ثانية كشفت هذه الوثيقة عن إبقاء حكومة بودن على نفس الطرح الذي ذهبت اليه حكومة المشيشي بخصوص المحاور الثلاث الأخرى والتي جاءت بوثيقة بيت الحكمة التي توجهت بها حكومة المشيشي يوم 3 ماي 2021 الى صندوق النقد الدولي والتي تندرج ضمن البرنامج الاقتصادي الذي وضعته "شراكة دوفيل" المنبثقة عن قمة مجموعة الدول الثمانية المنعقدة في باريس يومي 26 و27 ماي 2011 التي جاءت لاحتواء ثورات الربيع العربي، وترجمها برنامج الإصلاحات الهيكلية لصندوق النقد الدولي الذي يعتبر امتدادا للنسخة الأولى منه التي جاءت في سنة 1986 من جهة، وتم اقراره في رسالة النوايا الأولى لسنة 2013 ورسالة النوايا الثانية لسنة 2016 وبيان المجلس التنفيذي للصندوق الصادر في 26 فيفري 2021 من جهة ثانية.
هذه الوثيقة المسربة أرادت اختزال الأزمة التي تمر بها بلادنا في شح السيولة وشح موارد ميزانية الدولة لدفع المواطن الى الإقرار بأن الخروج من الأزمة لا يمر الا عبر صندوق النقد الدولي، وهو ما عمل على ابرازه الثمانون اطارا من الإدارة التونسية الذين انكبوا طوال شهرين كاملين على اعداد هذه الوثيقة عند طرح الأزمة من زاوية سياسة المالية العمومية وهو طرح يخفي مغالطات خطيرة باعتبار أن الأزمة التي تمر بها بلادنا هي أزمة هيكلية وليست ظرفية وذات طابع مالي يمكن تجاوزها بالحصول على قروض خارجية وخاصة من صندوق النقد الدولي من خلال وضع سيناريو يسوق لهذا الحل كقدر حتمي على تونس في كل محاولة البحث عن مخرج من الأزمة.
اتباع هذه المنهجية يكشف عن تعمد ممنهج لمغالطة الرأي العام الوطني والشعب التونسي في قدراته الذاتية للخروج من الازمة واقتراح حلول وطنية حقيقية تقوم على إعادة الاعتبار للقطاعات الاقتصادية المنتجة وعلى الاستثمار الوطني وإعادة الاعتبار للدينار عبر الغاء قانون استقلالية البنك المركزي ووضع الترسانة القانونية التي صادق عليها مجلس نواب الشعب من سنة 2014 الى سنة 2019 تحت مجهر أولوياتنا التنموية الوطنية.
مثل هذا التلاعب والمغالطات في طرح الإشكاليات والصعوبات التي تواجهها بلادنا كانت سمة جميع الحكومات المتعاقبة بعد الثورة لتخرج للرأي العام ببرامج انقاذ لم تخرج عن مربع برنامج الإصلاحات الهيكلية لصندوق النقد الدولي وخارطة طريق البرلمان الأوروبي والاتحاد الأوروبي، هاجسها في ذلك ليس الإنقاذ، ولكن ضمان وجودها في السلطة.
حكومة قيس سعيد لم تشذ عن هذا المنطق وانخرطت منذ توليها لمهامها في مسار هذه الجهات الخارجية وأعدت "برنامجا للخروج من الأزمة" على مقاس وصفة صندوق النقد الدولي وانتظارات الاتحاد الأوروبي بعيدا عن تطلعات التونسيين وأولوياتهم وحقهم في الشغل والصحة والتعليم.
ومع ابقائها على المحاور الثلاث التي جاءت في وثيقة بيت الحكمة، لتشكل الى جانب هذه الوثيقة "برنامج الإصلاحات للخروج من الأزمة" عملت وزارة المالية على تقديم تصورها للإصلاحات الموجعة ذات العلاقة بسياسة المالية العمومية والذي صمم على أساس القضاء على دور الدولة التنموي والاقتصادي والاجتماعي من خلال تجميد الأجور، ورفع الدعم عن المواد الأساسية والمحروقات والكهرباء، والترفيع في الضرائب، وتفويت الدولة في المؤسسات العمومية ، ليقتصر دور الدولة، ومن خلال ميزانية الدولة، على جمع الضرائب وتسديد الديون الخارجية لضمان تحقيق التوازنات المالية الداخلية والضغط على عجز ميزانية الدولة في مستوى المعايير الدولية أي 3 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي دون مراعاة الكلفة الاجتماعية والاقتصادية لمثل هذا التوجه.
قراءة في "الإصلاحات"
الإصلاح الأول: تجميد الأجور
في باب التأجير اعتبرت الوثيقة أن ارتفاع الأجور لا يتماشى مع تطور الناتج المحلي الإجمالي وأن كتلة الأجور تستحوذ على نصف ميزانية الدولة، وبناء على ذلك تقوم خطة "الإصلاح" على تجميد الأجور الذي سيوفر للدولة، في إطار ميزانية سنة 2022 ما يناهز عن 1559 مليون دينار.
ما يبعث على الاستغراب بخصوص هذا الباب أن مثل هذا الطرح يقوم على مغالطات خطيرة باعتبار أن كتلة الأجور على الناتج المحلي الإجمالي للبلاد لا يمكن الا أن تفرز رقما مرتفعا باعتبار التطور الإيجابي لكتلة الأجور وتراجع نسبة نمو الناتج المحلي الإجمالي في السنوات الأخيرة، في الوقت الذي يعتمد تقييم عدد الموظفين في الوظيفة العمومية على مؤشر عدد الموظفين بالنسبة لألف ساكن وليس عبر مؤشر مالي على غرار ما تعتمده الحكومات التونسية انسياقا لوصفة صندوق النقد الدولي التي تعمل على تدمير القطاع العام من خلال مثل هذا الطرح المالي الفارغ من كل محتوى تنموي واقتصادي، ليكشف مؤشر عدد الموظفين بالنسبة لعدد السكان أن تونس توظف 55 موظف لكل ألف ساكن في حين يرتفع هذا الرقم في فرنسا ليبلغ 89 موظف لكل ألف ساكن ويرتفع أكثر في السويد الى 140 موظف لكل ألف ساكن.
ان المقاربة المعتمدة للضغط على نفقات ميزانية الدولة عبر الضغط على الأجور هي مقاربة خطيرة وتخفي حقيقة السياسة الممنهجة لدفع الدولة الى التخلي عن القطاع العمومي والمؤسسات العمومية من جهة، وضرب سياسة إعادة توزيع الثروة من خلال تأمين الدولة للتعليم العمومي المجاني والصحة العمومية من جهة ثانية.
الإصلاح الثاني: رفع الدعم
أما في باب الدعم ترى الوثيقة أن تقلبات الأسعار العالمية للنفط والحبوب والزيوت النباتية امتصت ميزانية الدولة، وبناء على ذلك ترى الوثيقة ضرورة اعتماد مقاربة الدعم لمستحقيه والتي ستوفر للميزانية اعتمادات في هذه السنة قدرت ب 1646 مليون دينار.
ما نستغربه أيضا في هذا الطرح تجاهل الثمانين اطارا لتداعيات رفع الدعم على المحروقات والكهرباء على كلفة الإنتاج في القطاعات المنتجة وعلى ارتفاع الأسعار ونسبة التضخم وما يمثله هذا الطرح من تهديد حقيقي لديمومة الإنتاج والقطاعات المنتجة وتحويل السوق التونسية الى سوق استهلاكية للمنتوجات الأوروبية التي لن تجد من ينافسها في أراضينا التي ستتحول بمقتضى هذا الطرح الى مقاطعة أوروبية وسوق لمنتوجاتها بامتياز.
هذا التوجه نجد له طرحا موازيا ومدعما له في قانون المالية لسنة 2022 المتمثل في الفصل 57 المتعلق بمراجعة المعاليم الديوانية الموظفة على المنتجات الاستهلاكية أو التي لها مثيل مصنوع محليا في اتجاه الترفيع فيها حيث تستثني هذه القائمة المنتوجات الموردة من الاتحاد الأوروبي التي ستبقى تتمتع بمعاليم ديوانية صفرية بمقتضى اتفاقية الشراكة لسنة 1995 بما يفتح أمام منتوجات الاتحاد الأوروبي كامل السوق التونسية والقضاء على كل منتوج أجنبي ينافسها في أراضينا.