أيام قرطاج الموسيقية.. من زاوية أخرى

يسرى الشيخاوي-
منذ أن لامستُ حدود الصحافة الثقافية قبل أربع سنوات، هذه المرّة الأولى التي لا أكتب فيها عن أيام قرطاج الموسيقية، عن العروض في ساعتها وحينها، وهي، أيضا، المرة الأولى التي أشهد فيها ميلاد دورة جديدة من المهرجان وأرقب مخاضها في رحلة ممتدة في الزمن وفي الشغف.
 
وبين الصحفية التي تواكب العروض واللقاءات وتكتب عنها لمؤسستها الإعلامية والصحفية المنتمية إلى  المكتب الإعلامي لأيام قرطاج الموسيقية، طريق ثالثة تماهى فيها الذاتي والموضوعي.
 
من البدء، كانت التجربة مختلفة في تفاصيل كثيرة مثّل بعضها رهانا لهذه الدورة التي أتت بتصور مختلف ومغاير قوّض فكرة المسابقة الرسمية والجوائز المنبثقة عنها، وإن غابت الجوائز التي تعني عددا محدودا من الفائزين، فإن هذه الدورة وزعت الفوز بالعدل والقسطاس بين جميع الفرق الموسيقية المشاركة.
 
الجمهور الذي توافد على العروض الموسيقية التي انطلق أغلبها بشبابيك مغلقة، هو أسمى جائزة للفنانين الذين بثوا تجاربهم الموسيقية على الركح وشاركوها مع عشاق الموسيقى.
 
إلى جانب الجمهور الذي صنع الفارق في هذه الدورة متحدّيا سوداوية الواقع وضبابيته وشبح كورونا، مثل المهرجان فرصة لتشبيك العلاقات بين مهنيي قطاع الموسيقى والفنانين وبوابة للإنتاج والتوزيع والجولات.
 
وحينما تتأمل برمجة العروض الموسيقية التي احتفت بالمواهب الواعدة في تونس والعالم العربي وإفريقيا ولبت كل الأذواق الموسيقية، ستلاحظ الأبعاد الفنية للعروض القائمة على بحث ونبش في أنماط موسيقية مختلفة.
 
بالإضافة إلى العروض الموسيقية التي مثلت ملاذا ومتنفسا وسفرا إلى عوالم أخرى، كانت الدورة السابعة من أيام قرطاج الموسيقية مجالا للمحادثات والنقاشات والتكوين، إذ انتظمت لقاءات مهنية الهدف منها مد جسور التواصل بين المجموعات الموسيقية والمهنيين من مديري المهرجانات المحلية والعالمية والمبرمجين والموزعين والمنتجين وغيرهم من الفاعلين في الصناعة الموسيقية.
 
وبخلاف العروض التي صدحت موسيقاها في أربع قاعات راوحت بين مسرحي الجهات والمبدعين الشبان بمدينة الثقافة وقاعتي ابن رشيق والفن الرابع، امتدت العروض الموسيقية إلى المدينة العتيقة.
 
ومن الاحتفاء بالالكترو، ارتسمت ملامح قسم مغر  بالمواكبة في المهرجان، قسم يراوح بين جانبي الصوت والصورة ويضفي بتعبيراته روحا أخرى في فضاءات ضاربة في التراث.
 
وفي هذه الدورة التي مزجت بين الجانب الحضوري والجانب الرقمي، لامس المهرجان تطور الوسائط التكنولوجية وأتاح لعشاق الموسيقى فرصة مواكبة العروض دون التنقل إلى القاعات، خاصة وان إجراءات محاربة كورونا حدّت من عدد الحضور.
 
وبعيدا عن العروض واللقاءات التي لا تتحدث إلا الموسيقى بمختلف تفرعاتها، تحمل تفاصيل الافتتاح والاختتام الكثير من المعاني والرسائل، فافتتاح أيام قرطاج الموسيقية تزامن مع اليوم الدولي للمهاجرين أنى اجتمع على الركح عازفون مهاجرين وآخرين تونسيين وخلقوا إيقاعات افريقية ملؤها الحماسة.
 
على إيقاع الموسيقى التي أوجدتها مجموعة "إيقاعات افريقية" انتفت كل الحدود والقيود أمام لغة الفن وصدحت أصوات الآلات الإيقاعية لتؤاز صوت المدير الفني لأيام قرطاج الموسيقية سامي بن سعيد وهو يتحدث عن انخراط الفنان في مشاكل التنقل والتفاوت بين مناطق الشمال والجنوب.
 
عن قوانين التنقل التي تفرضها دول بعينها وعن سجن الفنان تحدّث سامي بن سعيد لينتهي إلى أن الخيار الرقمي موقف وصرخة ضد كل أشكال قمع الفنان وتحديد مجالات تحركه.
 
ومن هذا المنطلق، كان وثائقي "أفريكا تور" الوثائقي الذي يجوب دولا افريقية ويوثق عروضا موسيقية بخصائصها الفنية الحيّة، وثائقي يتحدّى كورونا وكل الظروف التي من شأنها أن تحدّ من حرية الفنانين.
 
في حفل الافتتاح، لم تنته الرسائل عند هذا الحد، بل تواترت مع تدفق الكلام في كلمة سامي بن سعيد التي أتت بلغة غاب التزويق والتنميق، كلمة من طينة كل تفاصيل الدورة واضحة ومشحونة بالشغف.
 
وفي عرض جهاد الخميري وباكو، تواصلت فسحة الحرية والتحرر على إيقاع ألحان موشّحة بالإيقاعات الإفريقية، ألحان تتخطى كل الحدود وتخترق الدواخل دون إيذان، هذه الألحان التي لا تعبأ بالحدود بين البلدان وبقوانين الهجرة والتنقل اتخذت بعدا آخر حينما صدح على نسقها محمد الجويني بصوت نابع من عمق القارة الافريقية.
 
وانطلاقا من عالمها المفعم  بالتعدد والاختلاف قدمت مجموعة "أيتما" مع الفنان البصري "لورانز ثينارت" عرضا موسيقيا بصريا يتحدّث لغة كونية، عرض يجسّد عمق العناق بين الصوتي والبصري.
 
ومن الافتتاح إلى الاختتام، مرورا بجسور من الألحان والنقاشات، تظل الإيقاعات الافريقية على العهد تبعث على الحياة والأمل وتروي ملاحم وحروب تخوضها موسيقيا وتخرج منها منتصرا منتشيا.
 
وبعد يوم حافل بالعروض الموسيقية، أسدل عرض المجموعة الموسيقية المالية "سونغوي بلوز" الستار على فعاليات الدورة السابعة لأيام قرطاج الموسيقية في عرض تراقصت على إيقاعه الأجساد والأرواح.
 
وعبر رحلة أعضاء المجموعة الموسيقية، عمر، وعلوي، وغاربا، ونات، المنتمين لعرق "السونغوي" والذين دفعتهم التوترات في شمال مالي إلى الهرب من المدينة وإنشاء مجموعة موسيقية تحتفي بالحرية والتسامح، تتجلى قدرة الفن على تحدّي الواقع والآفات التي تشوبه.
 
ويوما قبل انتهاء فعاليات المهرجان تصدح الأغاني التراثية للسنوغوي على نسق مزج بين الموسيقى التقليدية والحديثة، في انسجام مع فلسفة المهرجان الي يعلي راية الاختلاف والتنوع.
 
على أن يكون اليوم الأخير من هذه المغامرة، فرصة للقاء بين الفنانين ومهنيي قطاع الموسيقى لتجسير العلاقات بينهم وفتح آفاق أرحب للمشهد الفني الواعد في تونس والعالم العربي وافريقيا، وبذلك يتحقق واحد من أهداف الأيام.
 
 
 
 
 

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.