18
كارم يحيى-
بدأت قراءة الصحف نحو منتصف الستينيات، وحينها كان ثمن النسخة من "الأهرام" الذي اعتاد والدي اصطحابها للمنزل 15 مليما.
وبحلول الأول من الشهر الجاري جويلية/ يوليو 2019 قفز سعر النسخة من "الأهرام" نفسه الى ثلاثة جنيهات أي 3000 مليما.. بما يعني زيادة تبلغ 200 مرة.
ومع صباح يوم سريان آخر زيادة في اسعار الصحف الورقية المصرية نشرت "المصري اليوم " ـ غير المملوكة للدولة مباشرة كتلك الصحف المسماة بالقومية ومنها "الأهرام"ـكاريكاتيرا للصديق والزميل "عمرو سليم" اضحكني مضمونه.
ولكن ايضا على الصحيفة الناشرة، وقد زادت بدورها سعر نسختها من جنيهين الى ثلاثة جنيهات . الكاريكاتير يحمل رسما لامرأة تقرأ في صحيفة عنوان زيادة اسعار الصحف "القومية " ملتفته الى فتاة تنظف زجاج نافذة بيتها قائلة:" بالراحة على الجورنال وانتيبتلمعي القزاز يا سعاد".
ثمة شواهد عدة على أن قرار زيادة اسعار الصحف الورقية لم يكن بالسهل .وهذا نظرا للتيقن من انخفاض التوزيع و انصراف القراء عن شرائها " قومية " أو " خاصة جديدة مملوكة لشركات ورجال أعمال " توصف بـ " المستقلة " أو حزبية باتت نادرة. ولدينا العديد من التصريحات بقرب هذه الزيادة الجديدة ظلت تتواتر بين حين وآخر منذ السابقة إلى جنيهين في 15 مارس 2015 نقلا عن مسئولي الهيئة الوطنية للصحافة التي تدير المؤسسات الصحفية القومية بمقتضى القانون 179 لسنة 2018.
وهي تصريحات ظلت تطفو فوق شكاوى من بلوغ خسائر الصحف القومية وحدها أرقاما غير مسبوقة تجاوزت 19 مليار جنيه (1).
وعلاوة على التحول وبخاصة عند القراء الشباب الى صحافة الانترنت المتاحة بسهولة ويسر وبتنوع وحرية اختيار أمام شاشات الهواتف الجوالة و ليس فقط الحواسيب الشخصية وغيرها ، هناك اعتبارات تزيد تكلفة الصحيفة الورقية المطبوعة كارتفاع اسعار الورق و الأحبار وبشكل عام الصناعةبرمتها.
ناهيك عن تقلص سوق الاعلان في هكذا صحافة، لكن المسئولين والجهات التي تشكو من هذه الاعتبارات لتبرير توجهات وقرارات زيادة اسعار الصحف المطبوعة يتجاهلون في الأغلب بل ودائما على الأرجح سببين جوهريين:
الأول يتعلق بجوهر العلاقة بين الصحيفة والقارئ .وهو أن تسويق وبيع خدمة متميزة هنا لا يتحقق إلا بممارسة حرية الصحافة والتعبير والانحياز للجمهور واعلاء المعايير والاخلاقيات المهنية.
وفي ظل المزيد من غيبة الحرية والمهنية كما هو واضح وجلي هذه السنوات يصعب اقناع القارئ بشراء صحف اختفي منها تنوع الآراء ونقد السلطات و التغطيات الميدانية المتميزة والتحقيقات والحوارات الجريئة وقد تحولت الى ما أشبهبنشرات دعائية تتشابه عناوينها في خدمة الترويج الفج للسلطة والمسئولين.
تتلقي بالتعليمات ما تنشر عن الأحداث وكيف تنشر، وتنصاع الى أوامر حذف المقالات والمواد الإخبارية واستبدالها. وكأن علوم الإعلام والصحافة في حاجة إلىمناقشة دور " ضابط الاتصال " بدلا من تطور مصطلح " القائم بالاتصال " الذي كنا ندرسه في كلية الإعلام الأم في مصر بجامعة القاهرة خلال عقد السبعينيات.
أما السبب الجوهري الثاني المسكوت عنه بشأن ارتفاع اسعار الصحف المطبوعة بمصر اليوم فهو تكلفة واعباء الفساد واهدار الأموال والموارد والطاقات البشرية وسوء الإدارة .وجميعها أمراض تنخر ومازالت منذ عقود داخل الدور الصحفية المختلفة في اشكال ملكيتها وعلاقتها بسلطة الدولة. وبالتالي تتسبب في مزيد الخسائر.
لقد جرى فتح هذا الملف في مناسبتين كبيرتين دون بلوغ الشوط نهايته الحاسمة ومحاسبة المتورطين وسن القوانين واتخاذ الاجراءات الكفيلة بالحيلولة دون العودة.
كانت المناسبتان الكبيرتان بحلول منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين مع تغيير قيادات الصحف القومية التي ظلت في مواقعها منذ نهاية السبعينيات وأوائل ثمانينيات القرن العشرين ، واطاحة ثورة جانفي/ يناير 2011 بالرئيس حسني مبارك ونفر من رجاله.
نظرة سريعة على مانشيتات الصحف اليومية الصادرة في القاهرة صباح الأول من يوليو الجاري ـ يوم سريان زيادة اسعارها ـ تفيد بالافتقار الى تنوع الاهتمامات والموضوعات، ناهيك عن غلبة الانشائية والمبالغات والافتقاد إلى الحس والقيم الإخبارية في معالجة الاهتمام / الموضوع الموحد الغلاب ( الاحتفال بذكرى 30 جوان /يونيو 2013 والاحتفاء بكلمة السيسي بهذه المناسبة ) (2).
وتصفح صفحات هذه الصحف يشير إلى انحسار الإعلانات وهروب المعلنين .وهذا ربما لأسباب يختلط فيها حال الإقتصاد بوعي المعلنين بانصراف القراء عن هذه الصحف.
ولنأخذ "الأهرام" الذي كان يقضم نحو نصف كعكة اعلانات الصحف في مطلع القرن العشرين (3) سنجد أن اجمالي ما نشره في عدده الأول من فئة الثلاثة جنيهات للنسخة نحو صفحتين من اجمالي 20 صفحة أي بنسبة 10 في المائة (4).
وكم كان يشكو صحفيون في هذه الجريدة وقراء لها في السابق من تغول مساحات الإعلانات وتجاوزها الأربعين في المائة كحد مقبول متعارف عليه . واللافت أن صفحات الوفيات التي اشتهر عنها القول "من لم ينشر نعيه في الأهرام فكأنه لم يمت " تقلصت اليوم الى نحو نصف الصفحة. ناهيك عن اللجوء الى توسيع المسافات بين السطور.
لك التي كانت تعد و تحصى كلماتها بميزان الذهب والأموال. وإذا مررنا على إعلانات مختلف الصحف قومية وخاصة في يوم الأول من يوليو الجاري ذاته لانتهينا الى أن الإعلانات تشغل ما بين صفر في المائة من صفحاتها كما هو حال "الشروق " و" الوطن" و2 في المائة عند " الوفد " الحزبية و" اليوم السابع "و "الدستور " الخاصتين و " الأخبار المسائي " القومية و3,6 في المائة عند " المصري اليوم " الخاصة و"الأهرام المسائي" القومية و 6 في المائة عند جريدة "المساء " القومية و7,5 في المائة عند "الأخبار" القومية و 10 في المائة عند " الجمهورية " القومية و 11 في المائة عند يومية "روزا اليوسف " القومية.
وإذا راجعنا اسعار الصحف في الأول من يوليو الجاري لتبين لنا أن صحفا خاصة ابقت على اسعارها كما هي على خلاف ما فعلت " المصري اليوم ".
احتفظت "الوطن" بالجنيهين سعرا لنسختها على خلوها من الإعلانات . وفعلت "الشروق" و" اليوم السابع " الأمر نفسه فأبقيتا على سعرهما الزائد بالأصل عند أربعة جنيهات .وكلاهما صدر في العدد الأقل من الأوراق ( 12 صفحة). لكن " الوفد "الحزبية زادت سعر نسختها من جنيهين إلى ثلاثة جنيهات.
و كان أول عدد يصدر منها في 21 مارس 1984 منذ نحو 35 عاما كان بعشرة قروش للنسخة . و هكذا واكبت "الوفد" في الأول من يوليو 2019 زيادات الصحف القومية كافة و"المصري اليوم " وعلما بأن المسائيات القوميات الثلاث ( المساء والأهرام المسائي والأخبار المسائي ) زادت بدورها جنيها واحدا من 190 إلى 290 قرشا.
والخلاصة هنا أنه حتى الصحف التي لم تجرؤ وتقدم على زيادة سعر نسختها اليوم قد تضطر غدا أو بعد غد جراء هروب القراء والمعلنين، وكذا العجز عن التحول إلى سياسات تحرير تنحاز للقارئ والمهنية .كما قد تضطر هذه الصحف توفيرا للنفقات للاستغناء عن صحفيين أو مزيد من الخفض لعدد صفحات العدد وصولا الى الإغلاق .وهذا اللهم إلا استفحل اعتمادها على ممولين رسميين أو في الخفاء على استعداد لضخ المزيد من الأموال لتعويض الخسائر المتواصلة المتراكمة.
وهكذا هي حبائل الدائرة الشريرة التي دخلت اليها العديد من الصحف في مصر الآن ، بما في ذلك صحف الشركات الخاصة الكبيرة التي كان يطلق عليها " المستقلة".
ولأن كل شيء لا الصحف المطبوعة وحدها ارتفع ثمنه، فقد لجأت إلى تقويم الزيادة في سعر الصحيفة حتى اليوم ومنذ النصف الثاني من الستينيات ـ كمثال الأهرام ـ بما طرأ على سعر الدولار الأمريكي إلى الجنيه المصري.
وتوصلت إلى مفارقة كاشفة بأن الدولار ارتفع بنحو 44 مرة فقط فيما بلغت الزيادات في سعر نسخة الصحيفة التي بدأت في الصغر قراءتها 200 مرة (5).
ولقد كان بإمكانيبحلول القرن الحادي والعشرينأن الاحظ تدهور قدرة المتعلمين جامعيا في بلادي على شراء الصحف مقارنة بعام 1962 حين جرى رفع سعر النسخة من 10 مليمات ( قرش واحد ) إلى 15 مليما وهذا مع تطور الحد الأدنى لأجر المتعلم خريج الجامعة من 12 جنيها بما يعادل 8000 نسخة إلى 105 جنيهات بما يعادل 210 نسخ باعتبار ان سعر " الأهرام " وقتها بلغ 50 قرشا أو نصف الجنيه (6).
والآن مع الأول من يوليو الجاري و مع زيادة الحد الأدنى لأجر الجامعي إلى 2105 جنيهات وعند الارتفاع الجديد في سعر الصحيفة تبدو هذه القدرة وقد زادت الى 671,5 نسخة. ولكن هذا التحسن النسبي لا يقارن بما كان عليه الحال قبل أكثر من خمسين سنة.
والأهم أن الانفاق على المتطلبات الضرورية الحياتية من طعام والملابس و خدمات الكهرباء والمياه والغاز والمواصلات و التعليم والصحة على الأرجح لم تعد تفسح كثيرا لرفاهية شراء الصحف،و كما كان عليه الحال في مطلع الألفية أو بعدها بسنوات.
ولا أدل على تقلص سوق شراء الصحافة المطبوعة من تصريح رئيس الهيئة الوطنية للصحافة "كرم جبر" في فبراير 2018 بانخفاض متوسط توزيع اجمالي الصحف المصرية يوميا إلى 600 ألف نسخة (7) فيما كان رئيس مجلس ادارة الأهرام الأسبق والرئيس الحالي لمجلس ادارة " المصري اليوم " قد اشار قبلها وفي يوليو 2017 إلى الانخفاض الدرامي من 3,5 مليون نسخة يوميا عام 2000 إلى 350 ألفا (8).
وفي ظل غياب هيئة أو جهة مستقلة موثوقة تحصي الطباعة والتوزيع وتمارس الشفافية فتنشر دوريا توزيع كل مطبوعة صحفية علينا أن نأخذ بجدية ما يتردد همسا وعلى استحياء في الأوساط الصحفية اليوم عن انخفاض توزيع اجمالي الصحف اليومية المصرية إلى نحو 200 ألف نسخة ليس إلا.
وفي كل هذا ما يفيد تفاقم أزمة الصحف المطبوعة في مصر على نحو خاص مقارنة بما يقال عن "موت الصحافة الورقية " في معظم انحاء العالم.
وهذا الأمر يفتح باب التساؤلات :هل هكذا زيادات في سعر النسخة دون حريات ومهنية وتقديم خدمة تحوز احترام القراء تعجل من هذا الموت على سرير السلطة أم انها كما يأمل اصحاب القرار تؤجله ولو إلى حين ؟.
اليوم استدعي واتأمل ما كان عندما نشرت للمرة الأولى في صفحة " الحوار القومي " بـ "أهرام" فبراير 1986.
سعر النسخة 50 مليما بما يزيد ثلاث مرات وثلث مرة عندما بدأت اطالع الصحفية صغيرا قبل نحو عشرين سنة. وها هو يرتفع اليوم وبعد 33 سنة من أول نشر ست مرات . وعلى الرغم من الطابع التعبوي المنافق إزاء الحاكم وسياسات الحكم وبخاصة فيما يتعلق بالشئون المحلية كان القارئ مازال ينتظر في منتصف الثمانينيات مقالات اسبوعية لنجوم في الفكر و الثقافة بمن فيهم مسئول الصفحة التي عملت بها ( المرحوم الاستاذ لطفي الخولي ) ، كما كان بالإمكان أن تعثر على كتابات منشورة أوسع نظرا وأعمق تحليلا في الشئون العربية والخارجية والثقافة والفنون وحتى مع رياضة وكرة قدم "نجيب المستكاوي".
وعلى الأقل كانت صفحات الوفيات أوفر عددا ناهيك عن اجمالي عدد صفحات الجريدة، تلك التي نعاها وعلى صلة بزجاج نوافذ البيوت صديقنا فنان الكاريكاتير " عمرو سليم ".
وللأسف هذا الموت البائس على سرير السلطة يجرى دون أن يدرك عاقل ما في مكان ما في هذا البلد بأن العالم ومعه مصر تغيرت بفعل ثورة تكنولوجيا المعلومات وأن هناك اجيالا جديدة جاءت بعديأكثر تفاعلا مع الكون و العصر واللحظة، ويقينا تختلف نظرتهم للسلطة وعلاقتهم بها عما كان في منتصف ستينيات عبد الناصر أو 1986 مبارك وما بعده .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
معلومات عن الكاتب: كاتب صحفي عمل بجريدة الأهرام حتى سبتمبر 2018 ، مؤلف كتب :" حرية على الهامش : في نقد أحوال الصحافة المصرية "، في طبعتين بالقاهرة 2005 و2011، و" تمرد في الثكنة :عن الصحافة المصرية وثورة 25 يناير " ، القاهرة 2012 ، وأيضا كتاب قيد النشر بعنوان " نقابة تحت الحصار : تاريخ آخر للصحفيين المصريين ".
(2) على سبيل المثال العنوان الرئيسي للأهرام جاء على النحو التالي :"أعظم أيام تاريخ مصر الحديث "و" الرئيس : ثورة 30 يونيو صيحة تعبير عن انتماء المصريين لبلادهم ".
(3) كتاب حرية على الهامش ، ص 98.
(4) بالطبع يختلف الأمر نسبيا مع العدد الأسبوعي يوم الجمعة .
(5) في المنتصف الثاني من الستينيات ارتفع سعر الدولار إلى الجنيه المصري من 38 إلى 40 قرشا ، ومع الاخذ كون سعر الدولار في الأول من يوليو 2019 بلغ 1664 قرشا فإن الزيادة تتراوح بين 43,8 و 41,6 مرة .
(6) حرية على الهامش ، ص 105 و106.
(7) تصريح على قناة المحور لبرنامج " 90 دقيقة " وكما ورد في موقع جريدة " الفجر" ، 20 فبراير 2018 :
https://www.elfagr.com/2977480
(8) مقال "الصحافة الجديدة في مصر " ، الأهرام ، 28 جوان /يونيو 2017.