أيّة أعلمة لقضايا التنوع الثقافيّ ؟

 بقلم: أمين بن مسعود  

إن كان التنوع في الطرح الفلسفي يعني تعدّد المقاربات والمسلكيات الفكريّة ضمن حدود الممكن والمنطق, وإن كان التنوّع في البيولوجيا هو اختلاف الألوان والأعراق ضمن مقولة "مورفولوجيا الجسد", وإن كان أيضا التنوّع في المنهجية يعني تفرّع السبل التحليلية ضمن أهداف البحث, فإنّ التنوع في الإعلام يعني من جملة ما يعنيه احتواء وتكريس التعددية الفكرية والثقافية والرمزية ضمن مقولة "دمقرطة المجال العموميّ".

ولئن وضع الفيلسوف الألماني يورغان هابرماس المجال العموميّ كفضاء توسطيّ رمزيّ بين الدولة والمجتمع, فلأنّ قيمة المجال العموميّ متأتية أساسا من حقيقة التنوّع ومن أحقية الاعتراف به, ومن حقائق الاختلاف في الأفكار والرؤى والأفعال الترميزيّة ومن ضرورة الدفاع عنها. 

عديدة هي المشارب الفكرية والتقاطعات المعرفية التي ساهمت في التأصيل لمسار ابستيميّ مهّد لمخاض صعب ومستمرّ من فضاء "الغيرية" إلى سياق "المغايرة" ,ومن مجال "الأحادية" إلى "التعدّد", ومن فضاء "الوحدة الشمولية" إلى "التنوع ضمن الوحدة".

وضمن هذه المسارات الفكرية الكبرى كانت المدونة المعرفية في علوم الإعلام والاتّصال تتموّج ببراديغمات عميقة على غرار المرور من "الأقليات المؤعلمة" إلى "إعلام الأقليات", ومن التلفزيون الأحادي إلى التلفزيون بكلّ الألوان الموجودة والمفقودة, على حدّ عبارة الباحثة الفرنسية إيزابيل ريقوني. 

هكذا, باتت "التفكريّة" في وظيفة وسائل الإعلام والاتصال تتجاوز الأبعاد الكلاسيكيّة المعروفة على غرار "الإعلام والتثقيف" حيال التعبيرات الرمزية والمادية المتعددة, لكي تتعلّق أكثر ما يكون ب"فعل التثاقف" و"التغاير". 

في هذا المفصل الابستيميّ, تتنزل مقاربات التعديل الإعلاميّ للتنوع الثقافي باعتبارها حجرة الأساس للتفكير في التعبيرات اللغوية والرمزية المختلفة كارتسامة لهويّة مشتركة متعددة التقاطعات والمشارب, ولتكريس مجال عموميّ ديمقراطيّ الأصوات والصور, ولتأصيل مبادئ العيش المشترك…

وهو بالضبط ما ذهبت إليه منظمة "اليونسكو" في الكثير من مبادئها وتوصياتها من حيث تعريفها للمهام الرمزية للإعلام العموميّ حيال التنوع الثقافيّ, إذ تضمّن مبدأ "التوازن" و"التمثيل" كمبادئ أساسية ومركزية لعمل "المؤسسات الإعلامية بمختلف محاملها.

وعلى الرغم من الاتفاق في مستوى ضرورة "التعديل" الإعلامي لقضايا التنوع الثقافيّ, إلا أنّ التجارب الإعلامية مختلفة باختلاف السياق وطبيعة الاثنيات والتعبيرات الثقافية (الدينية واللغوية …) المُراد تكريسها.    

فبالنظر إلى الأنواع الثلاثة للأقليات, وهي على التوالي "المجتمعات الأصلية" وهي الشعوب الموجودة قبل نشأة "الدولة الأمة", و"الاثنيات الاقلياتية وهي التجمعات ذات الاثنية المختلفة عن الدولة الأمة ولكنها موجودة ضمن حدودها, و"المهاجرون" والذين وفدوا عقب تاسيس الدولة الأمة. 

فإنّ كلّ حالة من الحالات اصطبغت بخصوصية محددة وبالتالي كانت مسلكيات التدبير والتعديل الإعلامي مختلفة, فالتعديل الإعلامي في بلجيكا مثلا مختلف عن نظيره في سويسرا او في هولندا وهي بلدان تعرف تنوعا لغويا بمقتضى تعدد الاثنيات الموجودة أفضى لا فقط إلى تأسيس قنوات محلية ناطقة بهذه التعبيرات أو اللهجات اللغوية, بل إلى اجتراح فكرة "جهاز التحكم متعدد اللهجات" والذي بمقتضاه يمكن للجمهور المستعمل أن يغيّر اللهجة مع الإبقاء على نفس المضامين الإعلامية.   

كما انّ التجربة الكندية لها طابعها الخاصّ والمتفرّد, فكندا من الدول القليلة التي انخرطت بقوة في نظرية التعددية الثقافية وهي نظرية سياسية تعيد تقسيم السلطة والحكم على اسس ثقافية ورمزية. 

وكندا أيضا هي من الدول القليلة أيضا التي عالجت استحقاق التنوع الثقافي من خلال "تأمين الحقوق الإعلامية للسكان الأصليين أولا" , والمهاجرين ثانيا, والاثنيات المتنوعة الساكنة في البلاد ثالثا".

لذا فليس من الغريب أن تنتج المدرسة الكندية في الدراسات الثقافية, مدونة فكرية وفلسفية جدّ متقدمة في مستوى التعددية الثقافية على رأسها الكاتب "ويل كيمليكا" ونصّه التأسيسيّ "أوديسا التعددية الثقافية". 

أمّا التجارب الإفريقية (على غرار الكونغو والكاميرون ورواندا وجنوب إفريقيا), فهي تجارب تختلط فيها مبادئ العدالة الانتقالية واستقراء الذاكرة الوطنيّة, بالتنوّع الثقافي واللغويّ. 

ذلك أنّ الحرب الـأهلية والعرقية التي اشتعلت في معظم البلدان الإفريقية, فرض عليها تفكيرا في التعديل الإعلامي لقضايا التنوّع الثقافي يقوم على حماية التعددية من خلال بناء أواصر الثقة المتبادلة لضمان العيش المشترك. 

عربيا, تمثّل التجربة المغربية نموذجا متقدّما – على تقصيرها في بعض القضايا- في أعلمة التنوع الثقافي عامة واللغوي خاصّة, فالمغرب يحتوي على إذاعة ناطقة باللهجات الامازيغية وقناة عمومية أمازيغية "تمازيغت", كما انّ الهيئة العليا للاتصال السمعي البصريّ أفردت مؤخرا "وحدة قيس" خاصّة بمواضيع التنوع الثقافيّ في البلاد.

ويبدو أنّ الجزائر التي توجد لديها قناة أمازيغية "الثامنة", وإذاعات أمازيغية محليّة كثيرة, ليست بعيدة عن المسار المغربي حتّى وإن تأخرت عنه قليلا لاعتبارات يطول شرحها.

والحقيقة أنّ قضايا التنوع الثقافي, تستدرّ علاوة على التعديل الإعلامي, مدونة قانونية صلبة لحماية مبادئ العيش المشترك من مطبات الازدراء ومثالب الصور النمطية وسوءات التمييز تحت أيّة عناوين دينية أو عنصرية. 

وفي الحالة التونسية مثلا, صوّت البرلمان مؤخرا على قانون مكافحة العنصريّة, وهو قانون يسمح بتسليط عقوبات مادية وسجنية على كلّ مخالفة في مستوى الوصم والوسم وفق الدين أو العرق أو اللون, كما انّ النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين بلورت بالتشارك مع منظمات المجتمع المدنيّ مدونة سلوك خاصة بالتعاطي مع قضايا الهجرة واللجوء.

أعلمة التنوع الثقافي في حاجة إلى مزيد من الاستقراء في مستوى درس المضامين والمواضيع وفي مستوى مقاربة ومقارنة التجارب المختلفة, وقد يكو لهذا السبب ولغيره أيضا سيعقد معهد الصحافة وعلوم الإخبار يومي 4 و5 أفريل القادم ملتقى علميا دوليا حول الإعلام والاتصال والتنوع الثقافيّ. 

ذلك أنّ من مبادئ الثقافة أن تكون متنوعة ومتعددة, ومن طبيعة البحث في علوم الإعلام والاتصال أن يكون متعدد الزوايا والأطروحة, عسى ان يستجلب بعض الإجابات الرصينة أو على الأقل يدفع الكثير من الجهل المركّب بالأنا والآخر… 

 

   

 

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.