15
بقلم: ميلاد خالدي
كثيرا ما يُخامرنا السؤال هل إنّه بمجرّد توفّر لدينا كُتّاب تونسيون سيصبح لدينا كتابة تونسية أو أدبًا تونسيا صرفا مميّزا يفرض نفسه في الخارج أكثر ما يكون في الداخل؟ أم إنّ هناك عوامل أخرى يجب أن تتوفّر كي يتسنّى لنا الحديث عن أدب فارق يقطع مع الأبجديات المحليّة المُستهلكة والبائسة؟
كاتب تونسي… بقلم صغير و مقصّ كبير؟
دون أدنى شكّ أنّ لكلّ بلد كُتابه و مبدعيه، فتونس تزخر بهم، و لا أدلّ على ذلك الملتقيات الثقافية و المناسبات الأدبية التي يلتقى فيها أصحاب الأقلام الصاعدة و الهابطة. لكن نعم في المقابل لدينا كُتّاب لا يقرؤون لبعضهم إلاّ نادرا. لدينا كُتّاب تونسيون يقرؤون عناوين الكتب فقط ثم يهرعون لمدح أصحابها. لدينا كُتّاب تونسيون يُنظّمون مهرجانات و لقاءات و لا يدعون إلاّ من سبق و دعاهم يعني ‘ تدعوني أدعوك، تمدح كتابي أمدح كتابك، تقرأ لي أقرأ لك و هكذا’. نعم لدينا كُتّاب تونسيون يتحصّلون على جوائز محليّة و يحضون بهالة إعلامية كبيرة فقط لأنّهم أخذوا نصيبهم من ‘الجامات و الجادورات’ و التعاليق الرنّانة و الباذخة و المُزعجة أحيانا.
نعم لدينا كُتّاب تونسيون يتحصّلون على جوائز عربية و إقليمية لأنّهم اقتحموا عوالم غريبة بأسلوب بديع و غريب. نعم لدينا كُتّاب تونسيون يُقلّمون أجنحة بعضهم، يتنافسون و يتناطحون و يتصارعون على الجائزة الأولى لكن هل أنّهم متحّمسون و )يحبّوا( بعضهم البعض؟ الإجابة تجدونها عند الكاتب الكبير محمود طرشونة حينما قال " أردنا، في عام من الأعوام، ترشيح عزّ الدّين المدني لجائزة نوبل للآداب و هذا يتطلّب منّا تزكية من عديد الكُتّاب التونسيين لكنّ الأمر لم يتمّ فكلّ كاتب يقول أنا الأجدر و الأَولى بالتزكية و الترشيح و هكذا بقوا يتناطحون حتّى انقضت السنة…". نعم لدينا كُتّاب تونسيون ، كُتّاب الحاضرة و العاصمة و كُتّاب الدواخل و المناطق الداخلية. نعم لدينا كُتّاب تونسيون يتجارون نحو أشباه النُقّاد، عَلّهم يتناولون أعمالهم في بعض الصحف و المواقع الإلكترونية. نعم لدينا كُتّاب تونسيون مغرورون يذهب في ظنّهم أنّهم بلغوا أسلوب Ireneusz Iredyński في المسرح أو لغة ابراهيم الكوني في الرواية أو تجريبية سركون بولص و Allen Ginsberg في الشعر. نعم لدينا كُتّاب تونسيون بأقلام صغيرة تتزحلق على الورق بمقصّات كبيرة تأتي على كلّ شيء….
كتابة تونسية…لكنّ بشروط
المقصود بالكتابة التونسية هو في العموم الأدب التونسي. فهل لدينا في الحقيقة مدرسة أدبية في الغرض أم تيّار يجمعُ الكُتّاب المسرحيين و الشعراء و الروائيين في تيمات خاصّة كما هو موجود في الأدب الجزائري أو الفلسطيني أو المصري أم أنّه مُنصهر في بوتقة الأدب العربي ومُتعلّق بهيكله ويبحث عن رابط لتيماته المتباينة و المتناثرة أحيانا. من يعتقد أنّه لدينا كتابة تونسية صرفة في علاقتها بالكتابات العالمية الأخرى فهو يشكو من قصور على مستوى الفصّ الأيمن من الدّماغ.
نتحدّث عن كتابة تونسية حين تكون حركة الترجمة نشطة وعلى أشدّها، تُترجم الأعمال الأدبية التونسية للغات العالمية كالإنجليزية و الاسبانية و الصينية وليس للفرنسية اللغة الأقلّ تمثيلية في العالم. نتحدّث عن كتابة تونسية حين تجدُها تتقارب، إذا لم نقل يشترك كُتّابها في نفس التيّار الأدبي أو يبتدعون تيّارا أدبيًا خاصّا بهم يجمعم و يُميّزهم. نتحدّث عن كتابة تونسية حين تتوفّر حركة نقدية حقيقية يدخل في مضمارها الجامعي و المُبدع على حدّ السّواء شرط تمتّع هذا الأخير بأدوات النقد الموضوعي المُثمر و ليس الانسياق نحو شلاّلات المدح و التملّق و المُداهنة. نتحدّث عن كتابة تونسية حين يقع تدريس الأدب التونسي في كُبرى الجامعات و المؤسّسات التعليمية البحثية العالمية الكبرى و يأخذ حظّه من الدراسة و التمحّيص و النقد، فالآخر هو دائما ديدنُنا في مسار تقييمي متكامل لجودة النصّ.
نتحدّث عن كتابة تونسية حين تكون بجميع دُور النشر لجان قراءة جادّة و أمينة تتولّى عملية التدقيق و التقييم و الفرز و الغربلة و لا يمرُّ إلى مرحلة النشر و التوزيع إلاّ النصّ الجيّد و القلم الاستثنائي مع أنّ هذا التقييم يبقى في معظم الأحيان عملا نسبيا يُعزى في مجمله إلى ملكة الذوق الأدبي و الجمالي. لكن المُهمّ في كلّ هذا هو العمل الابداعي الفارق و الجادّ هو الذي يستحقّ و يفرض نفسه. لا للاستخفاف و الاستسهال. نتحدّث عن كتابة تونسية حين يتمّ مضاعفة عدد التظاهرات الأدبية و الثقافية و الجوائز المُسندة في كلّ مدينة كما هو الشأن في المدن الأوروبية والأمريكية، فالجوائز ليست معيارا وحيدا لتحديد قيمة العمل، فهي تُعدّ رافدا و مُحفّزا و دافعا نحو الكتابة وتنويع أساليبها و مضامينها. فكُلّما اتّسعت الدائرة اتّسعت دائرة الجودة و الإبداع.
تظلُّ الكتابة التونسية جديرة بالمتابعة و التطوّر في ظلّ بحثها عن ذاتها و التماس طريقها. وتطوّر الكتابة التونسية تبقى رهين تطوّر الكاتب التونسي أخلاقيا و أسلوبيا و تِيميًا ضمن مدار حركة أدبية ناضجة مستمرّة في الزّمن و تتمتّع بنصيب وافر من الترجمة و النقد. وما أحوجنا إلى النقد الذاتي قبل المؤسساتي فهو كفيل برفع أدبنا و كتابتنا نحو مصاف التفرّد والجودة.
*ميلاد خالدي كاتب تونسي