ندوتها الوطنية على الأبواب: هل تحقّق قيادات الجبهة الشعبية "وصية" شكري بلعيد؟

تعيش تونس اليوم سنتها الرابعة بعد ثورة 17 ديسمبر 2010- 14 جانفي 2011 في ظلّ ظروف اقتصادية واجتماعية صعبة وتحديات أمنية.

وعلى الرغم من ان الديمقراطية في تونس لاتزال ناشئة، لا يمكن إنكار النجاحات التي حققتها البلاد بالمقارنة مع غيرها مما يسمى بـ"دول الربيع العربي"، كإنجاز الانتخابات التشريعية والرئاسية التي أشاد بها العالم، رغم كل الظروف الصعبة والتحديات.

إلا ان ضمان ديمومة هذه الديمقراطية الناشئة يحتاج إلى مجتمع مدني فاعل وأحزاب قوية كي تدافع عن المكتسبات المحققة، خصوصاً مع بروز بوادر مهددة للحريات وخضوع السلطات إلى أحزاب ذات توجه ليبرالي قد يقوم باتخاذ إجراءات موجعة، وبشكل خاص على المستوى الاقتصادي، من شأنها الإضرار بمصالح الشعب.

علاوة عن الحزبين المهيمنين في البلاد (حركتا النهضة ونداء تونس) لم يستطيعا ان يغيرا الكثير بعد الثورة، فالأول لم ينجح خلال توليه الحكم في السنوات الثلاث الأولى من الحكم، والثاني يعتبر الكثيرون ان جزاء منه له ارتباطات بالمنظومة السابقة و اخفاقات تلك التجربة، ما يجعل السلطة اليوم بين يدي من لم ينجح في إدارة أمور البلد في الماضي القريب.

وإذا كانت أحزاب الائتلاف الحاكم تبدو "متماسكة" وقوية، فإن أحزاب المعارضة لا تتمتع بذات القوة رغم انها تضمّ كفاءات عالية وشخصيات معروفة بنضالها، ولم تنجح في إقناع الجماهير لكي يمنحوهم ثقتهم ويوصلوهم إلى سدة الحكم.

وكلّ هذا يحملنا إلى نتيجة حتمية تتمثل في ضرورة التغيير، الأمر الذي يستوجب أحزاباً ذات دم جديد علّها تنجح في تحقيق المطالب التي نادى بها التونسيون في ثورتهم.

وتنشط أحزاب عديدة، ذات توجه اجتماعي ديمقراطي لم "تنصفها" الانتخابات، في محاولة منها لخلق جبهة أو تحالف يجمع بينها كي تتلافى التشتت الذي تعتبر انه كان السبب في عدم نجاحها في الاستحقاقات الانتخابية.

من جهة أخرى، تسعى الجبهة الشعبية، التي تحصلت على عدد لا بأس به من الأصوات في الانتخابات التشريعية مكّنها من الحصول على 15 مقعداً في البرلمان، إلى فرض حضورها في الساحة السياسية، رغم ان ما تحصلت عليه في الانتخابات لم يمنحها القوة الكافية لتكون معارضة فعّالة وذات تأثير كبير.

إلا ان بعض الآراء تعتبر ان الجبهة قادرة على المعارضة ولكنها عاجزة عن الحكم نظراً لبعض مواقفها التي يعدونها غير ناضجة سياسية. 

هذا وتستعد الجبهة الشعبية لعقد ندوتها الوطنية قريبا في ذات الوقت الذي يطرح فيه من جديد مطمح تكوين "الحزب اليساري الكبير" الذي كان وصية الأمين العام للوطد الوحد شكري بلعيد.

عدم رضا على أداء الجبهة

الناطق الرسمي باسم الجبهة الشعبية حمة الهمامي، أقرّ في تصريح إذاعي انه غير راض عن أداء الجبهة "لأنها قادرة على ما هو أفضل في حال توحدت"، وبامكانها أن تصبح البديل الحقيقي في ظل الوضع الراهن في تونس، حسب تعبيره.

وأكد الهمامي ان أكبر نقطة ضعف تعاني منها الجبهة هي التنظيم مبيناً انه سيقع التركيز على هذا المشكل في الندوات الوطنية القادمة لبحث كيفية تنظيم الصفوف وفتح المجال أمام كلّ الأنصار والقواعد.

من جانبه، أرجع أحمد الصديق القيادي بالجبهة الشعبية ورئيس كتلتها البرلمانية أسباب عجز اليسار في أن يأخذ موقعه الحقيقي في إدارة شؤون البلاد إلى التشرذم والضبابية والفهم المختلف للأمور.

وبيّن أنّ الإشكال داخل اليسار ينحصر في التقنيات والشكل والتنظيمي وإيجاد الصيغ للتقدّم إلى الأمام، داعياً إلى الترفع عن النزاعات الضيقة وقراءة الواقع بجدية أكبر والاقتراب أكثر من الطبقات الشعبية وإتقان أدوات مسك السلطة والتحكم في الشأن العام بشكل عقلاني مثل إتقانه لعبة المعارضة (الاحتجاج).

الابتعاد عن المواقف "الطفولية"

وفي السياق نفسه، اعتبر أستاذ التاريخ السياسي المعاصر والراهن عبد اللطيف الحناشي، في تصريح لحقائق أون لاين، ان مصطلح اليسار عرف تحولات عميقة في الفترة الممتدة من بروزه كمصطلح (الثورة الفرنسية) مروراً بانهيار الاتحاد السوفياتي ووصولاً إلى التطورات التي يعرفها العالم اليوم.

وأردف بالقول انه لذلك يبدو المفهوم والمصطلح ملتبسا أحيانا ومختلفا اشد الاختلاف أحيانا أخرى  فتركيبته وأطروحاته واتجاهاته ودلالاته في أوروبا تبدو مختلفة على ما هو الحال في الولايات المتحدة الأمريكية مثلا كما الحال في الدول التابعة ومنها الدول العربية وحتى بين هذه الاخيرة ودول أمريكا اللاتينية او الجنوبية والوسطى، مضيفاً ان هوية اليسار في حدّ ذاته اصبحت منذ فترة  مثار نقاش وجدل حتى في البلد الواحد لذلك يبدو اليسار كمفهوم وكمصطلح فضفاضا ويتطلب الأمر تدقيقا فكريا وسياسيا لتوصيف هذا "التيار" من خلال تحديد مرجعيته النظرية  السياسية.

اما عن مسالة ضعف اليسار التونسي عموما والجبهة الشعبية تحديدا، أوضح الحناشي ان المسألة تبدو نسبية مبيناً ان اليسار في تونس لم يكن له امتداد شعبي افقي عبر تاريخه الطويل (الجامعة الاشتراكية في تونس تأسست سنة 1919)، بل كان نخبويا بالإضافة للظروف الموضوعية والذاتية التي ألمّت بمسيرته.

وأعرب عن اعتقاده ان صيغة الجبهة الشعبية في حدّ ذاتها تمثل انجازاً تاريخياً ومكسباً سياسياً رائداً لليسار في تونس بل للبلاد وللمشهد السياسي ككل.

واعتبر ان ما تحصلت عليه الجبهة في الانتخابات التشريعية الأخيرة في مجلس نوّاب الشعب  وتموقعها بكتلة نيابيّة تتكوّن من 15 نائبا يعتبر أيضا انجازا حقيقيا بإمكانها تطويره إذا تمكنت من تطوير خطابها  وتجديده وتعميق رؤاها وأطروحاتها الاقتصادية والاجتماعية وعدم إسقاط النظرية على الواقع بل استخدام المنهجية لقراءة الواقع، وإيجاد الطرق والوسائل الكفيلة بتغييره كما عليها تطوير وسائل عملها  على الأرض والتفاعل مع الناس ليس من خلال نشاطها في المنظمات والهيئات الاجتماعية والإنسانية فقط بل في الشارع والقرى والأرياف والمقاهي الشعبية وليست النخبوية و في الأسواق والتفاعل مع أفراح الناس وأتراحهم، حسب تعبيره.

وتعليقاً على تصريح حمة الهمامي الذي قال فيه ان "الجبهة قادرة على ما هو أفضل لو توحدت"، قال محدثنا انه لا يعتقد ان الجبهة غير موحدة موضحاً ان هذه الأخيرة هي إطار تنظيمي يضمّ أحزاباً وتنظيمات وتعبيرات وشخصيات ماركسية وقومية وديمقراطية اجتماعية بل حتى ليبرالية.

وأضاف ان الهمامي ربما كان يقصد ان تتحول إلى حزب سياسي وان تكون لها رؤية فكرية موحدة مشيراً إلى ان الخلافات داخل الجبهة فموجودة على عدة مستويات فكرية وبنيوية سواء بين الماركسيين أو بين القوميين أو بين هؤلاء وهؤلاء، مضيفاً ان هذا أمر يبدو طبيعياً نسبياً باعتبار ان الأحزاب (بما فيها الأيديولوجية غير الماركسية أو الاشتراكية منها) اليوم تتشكل من تيارات وتوجهات متعددة وتعمل في إطار الوحدة، على حدّ قوله.

واعتبر عبد اللطيف الحناشي ان الجبهة قادرة على ان تتطور تنظيمياً فكرياً انطلاقاُ من الحدّ الأدنى وهو ما يسمح لها بالتطور على خلفية ذلك الحد الأدنى، مؤكداً في الوقت نفسه انها ليست بحاجة لدروس من أي طرف من خارجها نظراً لكونها تزخر بطاقات بشرية ذات تجارب نضالية وفكرية مُعتبرة بإمكانها ان تفيدها وتساعد على تطويرها وإشعاعها.

وأشار إلى انه من الضروري ان تبتعد الجبهة الشعبية عن الصراعات الإيديولوجية الهامشية والجزئية التي فرقت اليسار وساهمت في تفتيت قواه، وان تتجنب توظيفها، من قبل أطراف داخلية أو خارجية أو الاثنين معاً، في معارك سياسية أو ايديولوجية مفتعلة ضدّ خصومها التونسيين.

وبيّن الحناشي ان هذا الأمر قد ينهكها ويشتتها ويقوي خصومها مشدداً على ضرورة ان تعي الجبهة بدقة خصائص ومميزات المرحلة التي تمرّ بها البلاد ارتباطاً بالتحولات التي تشهدها المنطقة.

وختم بالقول انه يمكن للجبهة أيضاً الابتعاد عن المواقف السياسية التي يمكن وصفها بـ"الطفولية"، وهي مواقف تبدو أحياناً ارتجالية لا تليق بمناضلي الجبهة ولا بتاريخهم، وفق تقديره.

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.