ملامحها تلوح في الافق: هل يكشف ملف الاصلاح التربوي "عورات" الائتلاف الحاكم؟

دعا مؤخرا، رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي في تصريح اعلامي على هامش ندوة عقدت بمقر الحزب في مونبليزير"تحت عنوان الاصلاح التربوي: الواقع والرهانات"، وزير التربية الحالي ناجي جلّول إلى عدم "التعجّل" و "التسرّع" في معالجة هذا الملف الذي يعدّ من أوكد أولويات المرحلة الحالية بقطع النظر عن هوية وطبيعة الأطراف الحاكمة اليوم.

الغنوشي لم يكتف بـ"النصح"، بل إنّه وجّه رسالة مبطنّة و لكنّها كانت شديدة اللهجة لوزير التربية الندائي القادم من أوساط يسارية الهوى و الفكر، حينما قال: " لا أحد له الحق في أن يتحكّم في مستقبل أجيالنا ولا مجال لانفراد أي جهة أو أي طرف كان بصناعة مستقبل أجيالنا كما كان يحدث ذلك في النظام السابق بل يجب أن يتم الاصلاح بمشاركة الجميع.. حيث توجد تيارات ايديولوجية كثيرة في تونس ولا مشكل في ذلك ولكن لا يحق لتيار ايديولوجي أن ينفرد بصناعة مستقبل أجيال تونس والتحكم فيها."

بيد أنّ "الغريب" في تصريح زعيم حركة النهضة هو الاقرار بفضائل تجربة التحديث التربوي في ما أسماه"العهد الأوّل من الجمهورية" أي زمن الرئيس الحبيب بورقيبة الذي أناط للأديب والمناضل الوطني محمود المسعدي وقتها مهمة تركيز أسس نظام تعليمي يواكب روح العصر ليكون امتدادا لتجارب سابقة انطلقت مع حركة الاصلاح في القرن التاسع عشر على يد ثلّة من رموز تلك الفترة على غرار  الوزير خير الدين ورفاقه من النخبة التحديثية.

و لئن لم يتوان الغنوشي عن القول بأنّ تلك التجربة شابتها "بعض النقائص" على حدّ تعبيره، فإنّ خطاب التقريظ الذي تحدّث به عمّا يسميه في كتاباته و فكر الحركة التي كان و مازال مهندس أطروحاتها "المشروع الثقافي التغريبي" لدولة الاستقلال يعدّ تحوّلا ملفتا للانتباه وهو بالضرورة يحتاج إلى النظر والتحقيق.

أبعد من ذلك، فقد ذهب الغنوشي إلى اعتبار أنّ التعليم في العهد البورقيبي كان "متينا و أفرز نخبا بارزة"، في حين شهدت فترة حكم الرئيس بن علي "تدمير هذه الميزة ممّا أدى إلى فساد المنظومة التربوية وإلى البطالة في صفوف أصحاب الشهائد العليا"، وفق تقديره.

لقد انطوى تصريح رئيس حركة النهضة  على تناقضات عديدة و تحوّلات في مواقف تشي بها نصوص مازالت شاهدة على أطروحات راشد الغنوشي في المضمار التربوي. و على الرغم من أنّ الغنوشي قبل أن تلج قدماه الحياة السياسية-الحزبية كان أستاذا في مادة الفلسفة، فإنّه لا يُعرف له و لا لحزبه مشروع واضح المعالم في المسألة التربوية-وهو موطن قصور لدى كلّ الأحزاب تقريبا-، فكلّ ما رشح عن حركة النهضة طوال مسيرتها منذ أن كانت تحت مسمّى "الاتجاه الإسلامي" هي شعارات عامّة تدور في فلك مقولة الذود عن "الهويّة العربية الاسلامية وتأصيل الناشئة فيها."

بلا شكّ فإنّه يحقّ لحركة النهضة ولكلّ الفعاليات السياسية والجمعياتية في تونس ما بعد الثورة مهما اختلفت مشاربها الفكرية أن تدلي بدلوها في ملف اصلاح المنظومة التربوية التي اهترأت وضربت في الصميم لاسيما بعد التأثيرات المدمّرة التي طالتها بسبب الصراع السياسي والاستقطاب الايديولوجي الحاد في مطلع التسعينات بين حركة النهضة والسلطة والذي ألقى بظلاله على مشروع الوزير محمد الشرفي الذي أُفشل في المهد وهو في حاجة اليوم إلى تقييم موضوعي بعيدا عن أوهام "تجفيف المنابع".

إنّ الوضع المتردي الذي آلت إليه مخابر صناعة "الذكاء التونسي" هو محصّلة لعوامل عديد من بينها الاستبداد السياسي وارتجالية الدولة في هذا القطاع الحسّاس، فضلا عن اسقاطات و املاءات الأطراف الدولية المموّلة لمثل هذه المشاريع في تونس. وقد كان قانون 2002 المتعلّق بالاصلاح التربوي والمدرسي عنوانا يلخّص الآنف ذكره. و الأمل ألاّ يحمّل مشروع الإصلاح المرتقب أكثر من وزره كما حصل في الماضي القريب.

غير أنّه من المهم القول بأنّ الإصلاح التربوي لا يمكن انجازه بالشعارات الفضفاضة سواء كانت "إسلاموية" أو "حداثوية". فبناء الشخصية القاعدية التونسية و انقاذ الأجيال القادمة من براثن التطرّف أو الانبتات يمرّ حتما عبر مشروع تربوي وطني وعقلاني يعيد الاعتبار لملكة النقد والتفكير ويراعي متطلبات القرن الحادي والعشرين والثورة العلمية والمعرفية والتكنولوجية التي ولدت من رحم العقل البشري، لا بواسطة الخطاب السياسوي المغرق في الايديولوجيا المحنّطة التي عفى عنها الزمن وتجاوزتها الأحداث. والملف التربوي إجمالا هو شأن تقني و بيداغوجي صرف يجب أن يكون فيه لأهل الذكر من المربين والمتفقدين و كلّ مكونات المحيط المدرسي الكلمة الفصل.

إنّ تونس تحتاج، فعلا لا قولا، إلى منظومة تربوية عصرية من شأنها أن تكون قاطرة للتأسيس لدولة "المواطنة الراشدة" التي دون سواها لا يمكن قطّ اللحاق بركب الأمم المتقدمة. كما أنّه من الضروري التفكير في جوانب أساسيّة تخصّ هذا الشأن في علاقة بربط المنظومة التربوية بسوق الشغل و بالحياة المهنية.

ومن المؤكد أنّ التصريح الأخير لرئيس حركة النهضة سيكون مقدمة لجدل كبير حول ماهية و فلسفة الاصلاح التربوي لتونس الغد، وهو ما قد يكشف احدى "عورات" الائتلاف الحاكم الذي بني على قاعدة توافق فرضه الأمر الواقع بين خطيّن متوازيين لا يلتقيان إلاّ بإذن اللّه فإذا ما التقيا فلا حول ولا قوّة إلاّ باللّه.

والعهدة على من روى!

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.