بقلم: جنات بن عبد الله
أثار البيان الصادر عن صندوق النقد الدولي بتاريخ 30 ماي 2018 في ختام زيارة بعثة الصندوق الى تونس لمتابعة تقدم مسار الاصلاحات الكبرى مع السلطات التونسية ومناقشة السياسات الضرورية لاستكمال المراجعة الثالثة لأداء الاقتصاد والتي ستتيح لتونس الحصول على 257 مليون دولار اثار هذا البيان نقاط استفهام كبيرة حول التداعيات المحتملة لهذه السياسات والاجراءات والقرارات التي ستتخذها السلطات التونسية على المقدرة الشرائية للمواطن والمقدرة التنافسية للاقتصاد الوطني ومنظومة الانتاج بصفة عامة والاستقرار الاقتصادي والاجتماعي بصفة عامة.
ففي ظل تدهور جميع المؤشرات الاقتصادية والمالية والاجتماعية وتحديدا نسبة النمو الهشّة التي سجلها الناتج المحلي خلال الثلاثي الاول من السنة وارتفاع نسبة التضخم، وتواصل تفاقم عجز الميزان التجاري والعجز الجاري، وتراجع الاحتياطي من العملة الصعبة، وتواصل انزلاق الدينار فان طبيعة الشروط والاجراءات التي دعا الصندوق السلطات التونسية الى اتخاذها من شأنها مزيد تعميق الازمة المالية والاجتماعية وايضا السياسية استنادا الى التصريحات الاخيرة لأحزاب الائتلاف الحاكم والتي اعتبرت فيها ان فشل حكومة الشاهد على الصعيد الاقتصادي يستوجب رحيلها.
ففي تشخيصه للوضع الاقتصادي الراهن، لاحظ خبراء الصندوق ان الاقتصاد التونسي أبدى بشائر تعاف في الربع الاول من السنة مقارنة بنفس الفترة من السنة الماضية وهي أعلى نسبة حسب تقديرهم منذ سنة 2014 وتلك بفضل كما جاء في البيان «قوة الانتاج الزراعي والصادرات بما ادى الى تراجع العجز الجاري». كما لاحظ البيان تحسن تدفق الاستثمار الاجنبي دون الاشارة الى وجهتها والقطاعات التي استقطبتها وقدرتها على خلق مواطن الشغل وتحسين القدرات الانتاجية في البلاد.
واعتبر خبراء الصندوق ان هذه النتائج «الايجابية» لم يرافقها تحسن على مستوى نسبة التضخم ولم تكن لها تداعيات ايجابية على الاحتياطي من العملة ليخلصوا الى ضبط قائمة الاجراءات التي يجب ان تتخذها السلطات التونسية لتحسين امكانات الحصول على التمويل الخارجي وتوفير مزيد من العمل في القطاع الخاص وتدعيم التعافي الاقتصادي حسب البيان.
ولئن يستقيم هذا التشخيص الىحد ما للواقع التونسي مع حقيقة الوضع فان الاشكالية تكمن في الحلول المقترحة من قبل الصندوق والتي لم تأخذ بعين الاعتبار الاسباب الحقيقية التي تقف وراء تأزم الوضع وتدهور المؤشرات المالية والاجتماعية وذلك لاسباب ايديولوجية تتعارض وتتناقض مع التوجه الليبيرالي للصندوق الداعي الى تحرير التجارة الخارجية ورفع كل القيود امامها ورفض كل دعوة الى اقرار اجراءات الحماية الظرفية المسموح بها في احكام اتفاقيات المنظمة العالمية للتجارة لترشيد التوريد والحد من تدهور الميزان التجاري.
هذا التوجه من قبل صندوق النقد الدولي والذي يمكن وصفه بالممنهج، يفتعل تجاهل خصوصية المشهد الاقتصادي التونسي، مشهد يستند الى أساسيات هشّة كرسها وعمّقها برنامج الاصلاح الهيكلي للصندوق لسنة 1986 واتفاقية الشراكة مع الاتحاد الاوروبي لسنة 1995، توجه أفقد الاقتصاد التونسي ٪55 من نسيجه الصناعي وأضعف قطاعه الفلاحي والقطاع الخدماتي وكلف المجتمع فقدان آلاف من مواطن الشغل ليرمي اليوم الشباب التونسي نفسه في مقبرة المتوسط هربا من البطالة والفقر والبؤس والجهل.
ولئن نتفهم موقف خبراء صندوق النقد الدولي بخصوص تحاليلهم النظرية وحلولهم الموجهة والموظفة فاننا نضع نقاط استفهام كبرى حول انخراط السلطات التونسية وراء هذه التحاليل وتبنيها لحلول ستدخل تونس هذه المرة في منطقة اللاعودة ومنطقة الانتحار الجماعي الذي لن يفلت منه لا الغني ولا الفقير باعتبار ان بيان الصندوق هذه المرة خص الفقراء من التونسيين باجراءات الحماية الاجتماعية من خلال دعوتهم السلطات التونسية الى «زيادة التحويلات الى الاسر الأقل دخلا لحمايتها من تأثير ارتفاع الاسعار».
لقد ضبط خبراء صندوق النقد الدولي في هذا البيان مجال وطبيعة التحرك الحكومي خلال هذه السنة بكل بساطة ووضوح وشفافية من خلال دعوتها لاتخاذ اجراءات «حاسمة» لمكافحة التضخم وخفض عجز ميزانية الدولة، والاهم من كل ذلك لحماية الفقراء.
ولئن لم يشر بيان الصندوق الى عدد الفقراء المعنيين بهذا الاجراء لتحديد قيمة التحويلات وما ستتكبده خزينة الدولة من نفقات اضافية بما سيساهم في مزيد تفاقم عجز ميزانية الدولة فان طبيعة الحلول التي جاءت في البيان ووجدت لها صدى ايجابيا لدى البنك المركزي والسلطة التنفيذية في تونس تكشف عن نسبة تطور هذه الشريحة التي ستتعزز على حساب الطبقة المتوسطة التي ستشهد تدهورا لمقدرتها الشرائية في ظل قرارات تبنتها حكومة الشاهد وادرجتها في وثيقة قرطاج 1 ووثيقة قرطاج 2.
فالترفيع في أسعار المحروقات للمرة الثالثة خلال الستة اشهر الاولى من السنة ستكون له تداعيات خطيرة على ارتفاع اسعار جميع السلع والمنتوجات والخدمات الصحية والتعليم والنقل، وستتعمق هذه الضغوط التضخمية في ظل تجميد الزيادات في الاجور وتجميد الانتدابات في القطاع العمومي وركود النمو الاقتصادي الذي يعكس تعطل النشاط في القطاع الخاص من جهة، وفي ظل قبول البنك المركزي الترفيع في نسبة الفائدة المديرية والتي يروج لها على خلفية الضغط على الاستهلاك في حين انها ستزيد في تدهور المقدرة الشرائية وتعطل الاستثمار وخلق مواطن الشغل من جهة أخرى.
كما ان هذه الضغوط التضخمية ستتعمق بسبب ارتفاع التوريد وخاصة توريد المواد الكمالية على حساب الادوية والحبوب والمواد الاساسية الاخرى، وأزمة فقدان الادوية هذه الايام في السوق خير دليل على اختلال التوازنات الخارجية وتراجع الاحتياطي من العملة، في ظل صمت الحكومة امام تدهور الميزان التجاري ورفضها وضع اجراءات حمائية تحد من التوريد المنظم فضلا عن العشوائي طالما وان هذا الاجراء يتعارض مع توجهات صندوق النقد الدولي رغم ما تمثله هذه الحماية الظرفية من امكانيات لانقاذ البلاد والاقتصاد بدءا من حماية منظومة الانتاج من المنافسة غير المتكافئة مع المواد الموردة، مرورا بتحسن الميزان التجاري وبالتالي تحسن الاحتياطي من العملة وحماية العملة الوطنية من مزيد الانزلاق.
اننا اليوم امام لحظات تاريخية تحتم رفض حلول صندوق النقد الدولي التي ستحولها الحكومة الى اجراءات تفترض التروي والحذر والاحتكام الى السيادة الوطنية والقطع مع التدخل الخارجي في الشؤون الداخلية تحت جلباب «اليد الممدودة». وفي غياب ذلك فان شعار الثورة التونسية سيتحول من ثورة «الحرية والكرامة» الى ثورة «كلنا فقراء».