بـقلم: سمير بوعزيز
(وجدني هائما في شارع قريب من بيته. صعد بي إلى الطابق الثالث لبناية من عهد الاستعمار الفرنسي، في حي البلفدير. قال إنها النسخة الأخيرة من الطبعة الأولى. حينها شعرت بسعادة لهذا السبب).
قرأت الكتاب دُفعة واحدة. نسيت آخر مرّة فعلت ذلك. لم يتركني ورقهُ. تمسّك بي من إهداء صاحبه إلى آخره. أنظرُ إلى ظهر الغلاف علّه يمكّنني من نهاية طريق “محمد الفاهم”. لعلّني أبحث لي عن طريق!!
أهداني هادي يحمد الكتاب وكتب: “عسى أن يكون هذا الكتاب لبنة من أجل فهم ظاهرة ملتبسة”. الآن، أنا على يقين أن هذا الكتاب أضاف لي الكثير. والآن، لا أعلم على وجه الدقّة إن كان الكتاب أعان على الفهم أو زاد السؤال.
كتاب أكبر من عدد صفحاته. أوسع من حكايته. أسلَمُ من كل إجاباتنا عن ظاهرة الإرهاب. يرفع حُجبا في البحث عن أسباب الانتماء لـ”داعش”، ولا يُجيب بمُطلق معياريّ.
“كنت في الرقة” كتاب روائيّ للصحفي التونسي هادي يحمد يقدّم قصة هارب من تونس إلى “الدولة الإسلامية”. وفي العنوان الفرعي الذي أراده الكاتب: “هارب من الدولة الإسلامية”. وإن الهروب الأوّل أولى بالاهتمام والتفكّر والتدبّر. هو السؤال.
***
تحاصرنا “الرقّة”، هي أكثر من مكان. متعدّدةٌ وأصبحت فكرةً. هي سبيلٌ للانتماء حين عجزت الأوطان عن احتضان أبنائها وعجزت مجتمعاتنا عن الاستجابة لطموحاتهم. وعجزت الرايات الحُمر والخضرُ البيضُ.
الذاهبون إلى “الرقة” يسعُون إلى أكثر من مكان يجمعُهم. إنهم يبحثون عن الخلاص. جاءهم نداء: “يا أيها المقصيون تجمعوا إنما أنتم إخوة. وادخلوا الديار التي كنتم بها توعدون. من كان منكم عانقوا. ومن كان ضدّكم فأنحروا”.
محمد الفاهم، بطل الحكاية. وقد كانت طُرقٌ كثيرة ممكنة، وحكايات مختلفة كان من الممكن أن يحكيها للهادي يحمد. ربما هي أقدارٌ أخرى أو إراداتُ مسارات أخرى. كان من الممكن أن يحدّثه، في لقاء الصدفة، عن حياته في دوترموند الألمانية لو لم يمنعه النظام التونسي من جواز سفره لشُبهة. أو يغني له “الراب”، فنّ شبابيّ يعشقُه، رغم أنّه يُشبه ضدّه. أو يحكي له قصصا من مدينته الساحلية. وسأجد الأمر ألطف لو كان سيحدثه عن حبيبته التي انتصرت له ليتزوجها، لكنها حزنت عليه مفارقا طمعا في النجاة. خَذَلَهَا.
***
هنا لا ينتمُون. وهذه البلدان التي نعيش فيها أماكن لا أوطان. و”الرقة” فكرة انتماء كانت متاحة للكثيرين. الهجرة إليها ليست ضرورية لأنّها تسكُنُ الفكر والقلب. تسكن أحياء وقرى وبيوتًا. يسكُنُ تُونُس أو اليمن أو فلسطين، ويعيش في الرقة. فكرة تأتي كغيرها من الأفكار من الحاجة إلى “جماعة”. وهؤلاء (مثلا) أرادوها دولة مرّة واحدة. ليس المهمّ من صنع الفكرة، المهمّ أنهم اتجهوا إليها. ليكن!! صنعتها مُآمرة، كما يقال، أو حلم تراثيّ يبرز في كل حينٍ من قرون بأُنَاسٍ جُددٍ وأسلحة جديدة وسحنات مختلفة ومقدّس عنيف. لا يهمّ! هي فكرة على قارعة الاختيارات، وهُمْ، بطبيعة الشباب وحاجاته، يحتاجون معنى وقصصا لحياتهم وأفعالا لأيامهم.
لقد كان محمد الفاهم مؤمنا فعلا بالفكرة.. أقول قولي هذا وأتردّد. لنقل: كان يعتقد أنّه مؤمن بها. عبر الحدود التونسية الليبية مشيا. طار إلى تركيا. طار عقلُه وهو يدخل “الدولة الإسلامية” أوّل مرّة.
***
وأنا أبحث عن أمثلة أخرى في مدوّنة قصص “الدواعش”. أجد أن كثيرا منهم كانوا كذلك لأنّهم فشلوا أن يكونوا غير ذلك. الكثير منهم يريد الحياة أكثر من الموت. كذبوني إن شئتم. أو صدقوني احتياطا لأنّني أعرف الكثيرين، واعرفني وأترابي جيّدا في زمن شبابنا.
دولنا تصنع كلّ هذا، ومن غيرُها؟ مُنغلقة مجتمعاتها ومُحبطة سياساتها وعنيفٌ التمييز فيها. لا عدالة ولا فرص. الإنسان رقم في قطيع أو جمهور انتخابيّ لأفكار الحزب أو مصالحِ قلّة.
انتبهوا!! محمد الفاهم تونسيّ ما بعد ثورة. ولا يزال يقال “ثورة الحرية والكرامة”. هذا الأمر لم يشفع. لم يقنع آلافا ذهبوا إلى “الرقة” ودولتها، وآلافا آمنوا بها، وأكثر بكثير لم يؤمنوا بها ولكنهم لم يثقوا في مقولة الثورة، وآخرون كُثر آمنوا وانكسروا بخدائع الدولة.
“دولة داعش” الوهْم تجد من يؤمن بها، ودولنا تُنفّر وتدعو متساكنيها من الشباب إلى الرحيل. قلنا أنّ بعض الرحيل بلا تنقّل، ففي شوارعنا، في قلب عواصمنا وأكبر ساحاتها تُرفع الرايات السّودُ بدل علم “الوطن”.
يقول البعض أن الأمر ليس بهذا السواد. طيّب. لكنّ ما كان من سواد كفيل بإحلال الظلام. والأخطر أن المشتقات “الاسلاموية” شريك في حكومات. و”الدواعش” إن هم ذهبوا وإن هُمُ عادوا يمثلون دائما احتياطي العنف للتحالفات الدموية.
***
ينتمي الشباب أيضا، وبعنف، إلى جمعيات كرة القدم حتى كأنهم “يُكفرون” جماهير أخرى (كُرويا). وينتمون عشائريا حتى تكون العشيرة قبل الدولة. وينتمون إلى مجموعات تحمل أفكارا عدميّة وقصوويّة في الفوضوية.
ولا ينتمي شباب آخر إلى شيء، فقط هي جغرافيا وجنسيّة لم يختاروها. من الممكن أن يبدلوا بلدا خيرا من بلدهم وأهلا غير أهلهم. هذه الدولة لم تصنع لهم شيئا. فقط لأنّها لازالت دولة الأقليّة المُتحكّمة.
***
“كنت في الرقّة” مع هادي يحمد. أخذني في قصّة صاحبه إلى وهمٍ عاشه هناك، حيث كان يعتقد في دولة يحكم من خلالها “الناجون” العالم باسم الله وكتابه وعلى منهج سلف، بعضُه تراثيّ مؤوّل وبعضه مختلق بمستلزمات “الدولة” التي كان عمرها قصيرا لكنّ موقعها في ثقافتنا عميق يمكنها أن تعود من مداخل شتّي.
لقد تمّ جمع أفكار وممارسات وأحقاد موجودة فعلا في دول كثيرة في منطقتنا وفي دول كثيرة من تاريخنا. إنها دولة تاريخنا العنيف والاقصائي وغير المتسامح والدموي.
لم نغادر “الرقة” بعد، وستدخل علينا من جديد إن لم نخرج إلى الحُرية. و”محمد الفاهم” وإن خرج منها فإنّه لم يعد إلى فكرةِ تُونس. وهل كتبنا فكرة الوطن لنحكيها للأطفال فتُشرق وجوههم؟ هذا مشروع الحريّة والتحرّر من وَهْمٍ.
*سمير بوعزيز: كاتب صحفي من تونس