أحمد نظيف-
نشرت هذه الفقرات على حسابي في موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك" ،و الذي تحول إلى موقع "للتدافع الاجتماعي" فقررت هجره ،و مخافة أن تضيع في زحمة المنشورات الأخرى ،جمعتها في هذه المقالة تحت عنوان "حين كنا صغاراً" أتذكر فيها طفولة مرحة عشتها في بلدتي "تطاوين" إلى عشرين سنة خلت. فأبناء الطبقات الوسطى و السفلى في هذا البلد تجمعهم الكثير من ذكريات الطفولة المرحة و المرة ،وليس أقل من ذلك سرقة الغلال و المشروبات الغازية من الثلاجة ،و التهام الدلاع ( البطيخ الأحمر) باليد دون استعمال السكين في القيلولة في غفلة من الناس حتى تبقى شطر الدلاعة كالقدر الأجوف ،و غمس الخبز في المرق بينما تكون أمك بصدد تجهيز الطعام، كما لا أنسى ولا ينسى أبناء جيلي حين يزورنا ضيف و يحمل في يده هدية ،عادة ما تكون مرطبات أو غلالا ،كنا نتقاتل عليها أنا و إخوتي بينما أمي تستقبل الضيف ،و ما إن يخرج المسكين حتى تندلع الحرب الكونية داخل المنزل من اجل بقايا الطعام و المشروبات ،و يبقى طعم "كسكروت بطماطم الحكة" لا يقاوم فلا بديل عن الطعم الأصيل …
نهاية عاشق
حين كنا صغاراً،في الصف الخامس الابتدائي تحديداً، عشت حادثة أليمة ،حين "بطش" مدرس العربية بزميلي فتحي بتهمة "الإساءة إلى الأخلاق الحميدة" ،هكذا تم تقديم تفسيرات لنا حول دواعي الصراخ العظيم المنبعث من القسم المجاور ،فقد تم "البطش" بالزميل المسكين وحيداً في قاعة خالية ،دون أن نتضامن معه حتى بصمتنا البارد أمام صلف المدرس الحاكم بأمره في جمهورية "الفصل الدراسي".أثناء ذلك كثرت الشائعات حول حقيقة الجريمة التي ارتكبها فتحي.ذهب البعض إلى أن المدرس قد ضبط كمية محترمة من الصور الخليعة بحوزته و لكن مع بعض التحري تبين أن زميلنا "المبطوش به" ،و في غمرة تأثره بمسلسل مكسيكي يعرض يومها على قناة "ات ت"(نافذة تطاوين الوحيدة على العالم) ،قد أرسل رسالة غرام و حب إلى الزميلة عفاف عارضا عليها حبه السرمدي و إمكانية الهروب معه على حصان نحو آفاق بعيدة …خرج فتحي من المعركة "عاشقاً منكسرًا " يومها، فقد تعرض لسيل من السخرية المريرة .في أعقابها غادر المدرسة نهائيًا ليتحول إلى عامل بسيط …
الزقوقو و رحلة البحث عن الحقيقة
حين كنا صغاراً ،كانت علاقتي بالزقوقو (الصنوبر الحلبي)،جدلية إلى أبعد الحدود،و مزدحمة بالتضليل التاريخي و تأثيرات الجغرافيا و الطبقة.حين كنت صغيراً و حتى زمن قريب،حين قدمت إلى العاصمة طالباً،كنت أعتقد أن السيد الزقوقو هذا،ليس سواء حبات الحلوى الصغيرة الملونة و التي تحوي داخلها حبة سوداء صغيرة،كانت تباع أمام المدارس للأطفال.حين كان الناس يتحدثون عن عصيدة الزقوقو ،كنت أندهش من مشهد العصيدة (نسميها في بلدتنا العيش) مغمورة بالحلوى،كنت أصور المشهد في ذهني و أسخر منه.فيما بعد اكتشفت أن الزقوقو شيء آخر،بطعم مختلف و لون مغاير ،صنوبر حلبي و ليس حلوى.انه تحالف الجغرافيا و المناخ،فقد كبرت في بلدة لا تعرف الصنوبر،حلبياً كان أو دمشقياً،و أكثر نبتها النخل و الشيح و الرمث و بعض الزياتين المتناثرة على رؤوس الجبال…و على قولة أبي نواس "بلادٌ نَبتُها عُشَرٌ وَطَلحٌ, وَأَكثَرُ صَيدِها ضَبعٌ وَذيبُ"…
الاستحمام في "قصعة" الصابون
حين كنا صغاراً، كان ضجيج الصباح لحناً نشازاً نعزفه كل يوم،هل تذكرونه؟! نستفيق جميعاً ، أنا و إخوتي ،في وقت واحد و تنطلق الصراعات ،و التي تتطور أحياناً إلى نزاعات مسلحة تستعمل فيها كل أنواع الأسلحة الفتاكة (الأحذية ،كأس القهوة ،قارورة ماء باردة في صباح شتوي مرير الخ الخ ) .ننتظر على أحر من الجمر قهوة أمي ،قليلة البن كثيرة الحليب. في هذه الأثناء تنشب نزاعات عنيفة حول الجوارب ،فتضطر أمي للتدخل تحت البند السابع لفض الاشتباكات و دحر القوى الغازية .كنت دائماً أقضي نصف الوقت أبحث عن جواربي ،التي صنعت منها كرة الليلة الفائتة، و نصفه الثاني في البحث عن المحفظة التي اختفت في ظروف غامضة ليلة الأمس.حبيبنا المذياع لا يحفل بكل هذا و يواصل مسيرته في بث أغاني فيروز و لثغة "المكي كربول " الفريدة متحدثاً حول "العناية الرشيدة و الحكيمة للرئيس بن علي".طبعاً ،و كعادة أي تلميذ تونسي أصيل ،أيام العطل لا أقوم بواجباتي المدرسية إلا مساء آخر يوم في العطلة بعد أن يستحم في قصعة الصابون،طبعاً …أفتقد ضجيج الصباح الجميل،فهل تذكرونه؟!!!
سروال عزت العلايلي
حين كنا صغاراً ،كان لي مؤشر أعرف به حلول الشتاء ،فحين يلفحني البرد و أقرر ارتداء سروال ثان تحت سروال الجينز،ذلك عندي أن الشتاء قد دخل.بالأمس تسوقت ليلاً ،فشعرت بنغزات البرد اللاذعة تتسرب لجلدي بين خيوط السروال و تلدغني،عندها ارتسمت في ذهني صورة السروال الداخلي القطني الأبيض الضيق الملتصق باللحم ،بدت لي صورته كالمتاريس التي يشيدها الفدائيون و مقاتلو حرب الشعب دفاعاً عن مواقعهم.تذكرت أيضا أصدقاء لي قرروا ،عند دخول الشتاء، شراء سراويل داخلية تقيهم صلف البرد الكافر.توجهوا الى محل شعبي وسط تطاوين و صاحوا في وجهه :"هل نجد عندك سروال عزت العلايلي ؟؟" تعجب البائع منكراً وجود سراويل تحمل هذا الاسم.فشرحوا له المسألة بروية أكثر: "هل تعرف السروال الذي يلبسه عزت العلايلي تحت الجلابية حين يمثل دور الصعيدي .فيضع طرف جلابيته في فمه حين يجري فيظهر سروال أبيض خفيف القماش ملتصق بساقيه و وركيه الدقيقين ؟؟؟" قال البائع المسكين "أجل عرفته" فصاحوا :"ذلك هو سروال عزت العلايلي يا أعزك الله".
شارع "النفة" يرزح تحت نير الاحتلال الصيني
حين كنا صغاراً ركضنا كثيرا في زقاقه و ضحكنا ،شارع الشوارع في "تطاوين" و ملك الساحات و الميادين في المدينة،شارع "النفة" الذي تحول اليوم إلى مقاطعة صينية.ماراً به هذا الصباح شاهدت بائعي النفة محاصرين في زوايا ضيقة تحيط بهم السلع الصينية من كل الجهات.ساعات مقلدة،أجهزة كهربائية،أزهار بلاستيكية فاحشة البشاعة،آلات حاسبة ،شاي و قهوة و غيرها من بضائع الصين.لم يكن ينقص جغرافيا الشارع الضيقة سوى "الراية الصينية الحمراء" و صورة "الرفيق ماو تسي تونغ" تعلق على حائط الكنيس اليهودي الذي يحد الشارع من جهته الغربية…رفاقنا في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني ارفعوا أيديكم عن شارع"النفة" و إلا فان الحرب الشعبية بيننا…فما أُخِذَ بالقوة لا يُسْترَدُّ بغير القوة.
في الحلاق أول مرة
حين كنا صغاراً و ذهبت أول مرة إلى الحلاق وحدي،أحسست أنني أصبحت رجلاً كبيراً راشداً.لم أذهب إلى "العياشي" ذاك الحلاق التقليدي الذي اعتاد والدي أن يأخذني إليه.قصدت حلاقاً آخر تعبيراً مني عن "انتهاج سياسة جديدة تجاه نفسي".دخلت واثق الخطى،ثم جلست أنتظر دوري.كانت القاعة تعج بالشباب و الضجيج و الدخان.أغاني الشاب حسني تملأ المكان و صوره تزين الحيطان(كنا نتداول إشاعة مفادها ان الشاب خالد قتل الشاب حسني غيرة منه)و مدار حديث الشباب حول أفلام الجنس و عذرية الفتيات.يقسم أحدهم بأغلظ الأيمان أن تلك الفتاة ليس بعذراء.ثم تندلع الحرب الأهلية على "صرة النفة" و يغضب البعض و يغادر البعض الآخر.في هذه الأثناء كنت أكتشف هذا العالم الجديد و أراقب الحلاق الذي يهذي دون توقف.اللعنة.. كان نماماً من الطراز الأول و "جعبوننا" كبيراً.أحصيت له في جلسة واحدة عشرات الأكاذيب.فقد زار كل مدن العالم و نام مع كل الفنانات و لثم شفاه كل فتيات الحي و امتلك أغلى السيارات (يخلي دار والديه أش يكذب) حتى أنني خشيت على نفسي يومها من أن يقع سقف القاعة على "نفوخي" ،كما قال المصري،و أروح فيها….
الصورة …
حين كنا صغارا و ذهبت أول مرة الى أستوديو التصوير اليتيم في مدينة تطاوين التي يحدها الآسي من كل الجهات، خريف العام 1993.أذكر أنني بعدها قد "بطشت" بكسكروت و قازوزة "سينالكو" بعد خروجي من الأستوديو صحبة خالي.مرتدياً يومها سروالاً يحمل صورة سلاحف "النينجا" .كان موضة يومها و كنت حين ألبسه أحس نفسي "خرا" كبيرا ، و قد درست به في الفصل الثالث و الرابع و تحول إلى شورت في الإجازة الصيفية.و أطلقت على العام 1993 "عام الصورة".
أيام حومتنا السينمائية
حين كُنَّا صِغارًا،حاولنا إعادة تمثيل فيلم "الرسالة" للراحل مصطفى العقاد.جلسنا في زقاق ضيق ،كسته الأتربة ، و قررنا بالإجماع أن "المعالجة الفنية للسيرة النبوية" كانت فاشلة على يد العقاد.مجلس الحل و العقد في "حومتنا" قراراته لا تقبل الطعن و لا المزاح.عدنا إلى بيوتنا بحثاً عن ملابس تليق بالحدث و فككنا عصي المكانس والمماسح لنتخذها سيوفاً و سرقنا "فولارات" أمهاتنا لنجعل منها عمائمَ و رجعنا إلى الزقاق،عندها بدأ الصراع المرير.الجميع يريد أن يمثل دور"حمزة" . في النهاية انحصر الصراع بين حسين و محمد فأقنعنا حسين بأن يلعب دور "الرسول"،يومها كنا نعتقد أن حمزة هو بطل القصة و ليس الرسول،فاقتنع محمد على مضض متوعّداً حسين بأن يرد له الصاع صاعين في أول تجربة "سينمائية قادمة".ثم انطلق البحث عن "بلال" لننتهي إلى طلاء وجه حمزة باللون الأسود ،كان وجهه "محنك" أي كثير اللحم و الشحم حتى انه شرب علبة كاملة من الألوان المائية.انتهت مرحلة التحضير و حدد المخرج عمر مواعيد التمثيل بحزم و بصرامة صارخاً في وجهنا …أكـــــــشن…
سكان التلفاز
حين كنا صغاراً ، كنا نتسمر أمام التلفاز في ليالي الشتاء و تطل علينا من شاشة "ات ت" قارئة الأخبار ،ذائعة الصيت ،فتحية عدالة خنشة أو الحبيب الغريبي بصلعته اللامعة ،كنت أعتقد أنهم موجودون داخل صندوق التلفزة لَحْمًا و دَمًا.فأدخل في جدل عقيم مع أمي ،تحاول هي في الأثناءإقناعي بأن الصندوق خالٍ من البشر و بأن فتحية عدالة حنشة في العاصمة و ستعود بعد تقديم الأخبار إلى بيتها لطهي الطعام وكي الملابس (تعتقد أمي أن هذه الأعمال حكر على النساء) و أن الحبيب الغريبي ،هو الأخر، ليس داخل الصندوق.ينتهي الجدل "البيزنطي" بأن أغفو على ركبة أمي حالماً ببيت مشيد من "الشوكولاطة" و بحياة لا مدرسة فيها و لا معلمين.
*نشر المقال بتاريخ 19 جانفي 2015