عرض “التريبونال”: عن السردية الفنّية للذاكرة الجريحة ..

يسرى الشيخاوي- 
 
سنة مرت على انطلاق عمل الدوائر الجنائية المتخصّصة في العدالة الانتقالية، بقضية الشهيد كمال المطماطي في التاسع والعشرين من شهر ماي بالمحكمة الابتدائية بقابس، وللاحتفال بالذكرى الأولى، لمسار التقاضي في هذه الدوائر المتخصصة، احتضنت بطحاء التريبونال بالمدينة العتيقة، عرضا للفنان ياسر الجرادي وشباب يؤدون "سلام".
 
ولا يخلو اختيار "بطحاء التريبونال"، من رمزية ودلالة، إذ أن النهج والساحة يتخذان تسميتهما من قصر خير الدين الذي استغل مقره كمحكمة إبان الاستعمار الفرنسي، قبل أن يسقط في دائرة النسيان إلى أن تحول فيما بعد إلى ملكية متحف بلدية تونس.
 
وفي "بطحاء التريبونال" حيث خير  ائتلاف المجتمع المدني للدفاع عن العدالة الانتقالية، إحياء ذكرى أولى جلسات الدوائر الجنائية المتخصصة في العدالة الانتقالية، كان الاحتفال سردية فنية للذاكرة الجريحة، ذاكرة مازالت إلى اليوم ترزح تحت وجع الانتهاكات والتعذيب والظلم والقمع.
 
وقبالة "التريبونال" التي لم يعد لها وجود فعلي لكنها مازالت قائمة في الذاكرة الوطنية، أعلنت الكلمات والألحان عن انطلاق ميلاد محاكمة ليست كغيرها من المحاكمات.
 
والفن عموما، ليس بمعزل عن القضايا الوطنية، وهو رواية أخرى للواقع بمختلف تلويناته، وفيه مساءلة لهذا الواقع ومحاكمة له من خلال عناصر فنية، ومن هذا المنطلق كان عرض إحياء الذكرى الأولى لانطلاق عمل الدوائر الجنائية المتخصّصة في العدالة الانتقالية.
 
وإن كانت أهمّية هذا الحدث تكمن في دوره في كشف الحقيقة وحفظ الذاكرة ومكافحة الإفلات من العقاب، فإنّ للفنّ الملتزم أيضا دور في تعرية الحقائق والحيلولة دون سقوط بعض الأحداث من ثقوب الذاكرة.
 
وفي بطحاء التريبونال، كان الحضور ممّن يؤمنون بمسار العدالة الانتقالية ودورها في فضح التجاوزات والانتهاكات الحاصلة في الماضي، على موعد مع عرض للفن الملتزم تراوح بين الغناء و"سْلام" إذا ما وصفناه بفنّ الكلمات.
 
والألحان والكلمات، هي الأخرى، لها دور في تخليد الذاكرة الوطنية وإلقاء الضوء على بعض الأحداث المفصلية فيها، وهي رواية فنية لأبعاد اقتصادية واجتماعية وسياسية، تتطرّق إلى بعض التفاصيل بعين ناقدة لغاية إعادة البناء على قاعدة العدالة.
 
ولأن كشف الحقيقة، هو الخيط الأول لتحقيق العدالة، غنّى ياسر الجرادي لروح الشهيد شكري بلعيد " نسمع فيه يغني يغني ويغني بالصوت يغني بابا حياك حياك بابا حياك"، و في تفاصيل ألحان رفيقته القيثارة تجلّى الرفض الصارخ للاغتيالات السياسية والرغبة الملحّة في كشف حقيقتها.
 
وياسر الجرادي، فنّان ملتزم يترجم ما يعتمل في نفوس جيل مخضرم عايش تحوّلات محورية قبل الثورة بعدها، وتُعكس كلماته وألحانه توجّهه الثوري وصدقه في ملامسة  قضايا المهمّشين والمنسيّين.
 
وفي البطحاء، تغنّى الجرادي بالحرّية وبالوطن، ونقل خيبات الشباب التي لم تُسقط عنه الأمل، وبـ" شبيكي نسيتيني"، وضع إصبعه على "اليأس" الذي تسلّل على قلوب الشباب الذب علّق آمالا كثيرة على الثورة وأرهقته انتكاسات المسار الثوري.
 
"شبيكي نسيتيني انا اللي اسمك كاتبه على جبيني.. ريحة هواك مخبية في كنيني.. مهما جفيتيني عمرك ماننساك"، تردّد صدى الكلمات في بطحاء التريبونال، ليرسم معالم العلاقة الجدلية بين الوطن والمواطن، فحتّى وإن كانت الأوطان جائرة أحيانا فإنّ حب المنتمي لها لا يخبو.
 
وبأغنية "تشي غيفارا"، غنّى للحرية وللامل وللغد الأفضل، قبل أن يغنّي "الشيخ" الصغير لآدم فتحي اعترافا وتكريما للفنّان رضا ديكي المجدّد في الغناء موسيقى وكلمات.
 
"إن شخت كالجذع يوما .. وغادرتني الطيور.. فقد مشيت طريقي ولم تعقني الصخور.. سيملؤون السلال ليرحلوا بالقليل .. وأكتفي بالقليل لأصنع المستحيل"، كلمات ردّدها ياسر الجرادي مصحوبة بألحان قيثارته وإيقاعات تحاكي مسيرة رضا الديكي الفنيّة التي ترسّخت في أذهان أجيال كاملة لجمع ما يقدّمه بين بساطة الكلمات وعمق الفكرة.
 
وإلى جانب الأغاني التي قدّمها الجرادي، احتضنت بطحاء التريبونال عروض "سْلام" أداها مجموعة من الشباب التواق إلى الحرّية تراوحت فيها النصوص بين الدارجة والفصحى وبين السوداوية والأمل.
 
و"سْلام" فنّ، إن صحّت التسمية، يعتمد بالأساس على الكلمات، ويخلو من التقيّد من أي ضوابط أو قواعد باستثناء وقع الكلمة وعمقها وصدق الإحساس.
 
وباللجوء إلى كلمات منظومة بأسلوب إيقاعي، ترجم الشباب الذين اختلفت أساليب طرحهم الواقع ونقدوا النظم السياسية والاجتماعية والثقافية، وبثوا أحاسيسهم  تجاه الوطن والحكام.
 
لكل منهم طريقته في الإلقاء، تختلف نبرات أصواتهم، وطريقتهم في التعامل مع الكلمات، ليلتقوا عند الإحساس بالخيبة من انحرافات المسار الثوري ، ولكنّهم يتسلحون بالكلمة لمقاومة قتامة المشهد العام التي  امتدّت الى كل المجالات دون استثناء.
 

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.