سحر الصحراء ومشقتها.. الطريق إلى برج الخضراء

أمل الصامت – 

كانت الساعة تشير الى الثالثة من فجر يوم الثلاثاء 20 ماي 2014، عندما انطلقنا من فندق بمدينة تطاوين على متن شاحنة رباعية الدفع خاصة بالغوص وسط الصحراء المؤدية إلى المنطقة العسكرية الحدودية برج الخضراء آخر نقطة بالجنوب التونسي. لا يخطر على بال العارفين أو الجاهلين على حد السواء أن في هذه المنطقة القصية من تونسنا هناك من يمضي الايام والسنين يتعلم ويكبر يتزوج وينجب الأبناء يعمل ويأكل يتنفس ويعيش والمهم ان يصنع ابتسامة ملؤها التفاؤل وعشق الحياة.

بعد ساعة ونصف من السير على الطريق المعبدة وصلنا إلى نقطة التفتيش والمراقبة الأولى للجيش الوطني بكمبود، قبل أن نغوص في المشقة والطريق الوعرة المؤدية إلى برج الخضراء عبر صحراء تمتد على مسافة 313 كيلومترا مثلما بينته اللافتة الاولى والأخيرة طول الطريق.   

عندما يتمخض العناء سحرا فتّانا

ثماني ساعات هي التي كانت تفصلنا عن نقطة النهاية عبر صحراء طويلة وشاسعة في مهمة اتاحت لنا الفرصة لبلوغ مكان لم نتصور حتى في أحلامنا أن نكون فيه يوما ما، وأسماء مناطق لم تمر على مسامعنا من قبل البتة، حتى أنها لا تظهر على خارطة البلاد عندما تحاول البحث عنها عن طريق جميع مشغلات الانترنات. إلا أن الرحلة التي نظمتها اتصالات تونس واختارتنا رفيقا فيها لتغطية حدث انتهاء أشغال إيصال خدمات الانترنات والجيل الثالث إلى برج الخضراء أو كما يحلو لأهلها تسميتها "منارة الصحراء"، كانت الفرصة الأولى ولعلها الأخيرة لاكتشاف ما عايشناه من سحر تغلب على أي شعور بمشقة أو عناء.

كنا نسأل مرافقنا في الرحلة كل مرة هل أن الطريق كلها على نفس الشاكلة؟ الا يوجد ابدا ولو لبضعة امتار مسافة ترحمنا لبعض الوقت من الاهتزاز واصطدام رؤوسنا بين الفينة والأخرى بسقف الشاحنة؟ غريب ، كيف يستطيع المارون من هنا والقاطنون في برج الخضراء في حال احتاجوا إلى التحول إلى أي من ولايات الجمهورية أن يتحملوا كل هذا العناء؟ كل هذه التساؤلات وأكثر كانت تطرح على مرافقنا الشاب خالد، أو "عاشق الصحراء" مثلما اخترت وصفه، من قبلنا وكأنه وضع في تحقيق أمني أو ارتكب ذنبا لم يقترفه.. ومع ذلك بقي مدافعا شرسا عن كل شبر تخطيناه، حالما بمستقبل أفضل للتراب الذي ظل يتغزل به مع كل متر نتقدمه.

كان التذمر هو كل ما قمنا به قبل أن تبدأ الشمس بالبزوغ تحت بقع السحاب المنتشرة في السماء، متى بدأ السحر يتجلى فوق هضاب الرمال الصفراء التي كانت تبدو وكأنها جبال من القطع الذهبية المكومة التي أينما أدار الناظر بصره.. وكلما حاول البحث عن حد له.. لا ولن يجد سوى السحر أمام عينيه، والانبهار على ملامح وجهه لا ينفك ينتهي وكلمة ما كل هذا الجمال والروعة على لسانه.

كمبود، جبال ماطوس، فسقية الندير، واد عبد الله، المخروقة، سنغر، واد زار، واد كُرّش، تيارد، عين السخونة، سطح الحصان، البيبان… كلها مناطق مررنا بها ونزلنا لأخذ بعض الصور التذكارية فيها.. كيف لا نفعل، ونحن لا ندري إن كانت الأقدار ستسمح لنا بالعودة إلى هذا المكان الساحر والمرور به من جديد أم لا؟ نقطة تفتيش تلو الأخرى.. طريق وعرة.. صحراء شاسعة.. شركات تنقيب عن النفط تعترضنا كل مرة، كل ذلك لا يثنيك لحظة عن التوغل في عمق المكان وكأنك غصت في بحر، نقاوة الماء فيه تشعرك بزوال كل ما ارتكبت من ذنوب، بل تمحو من ذاكرتك كل ما عشته قبل ان تبلغ تلك الجنة العذراء.   

مرجع في الوجود

وأخيرا ها هي منارة الصحراء برج الخضراء تطل علينا مشرقة كعروس في ليلة زفافها لتضفي على ما لايزال عالقا في أبصارنا من جمال روعة تفوق الخيال بتلك الواحة الصغيرة المحيطة بنبع غاصت في عمقه الشمس فاختلطت اشعتها ببريقه وتمخض المشهد عن لوحة كسرت كل مقاييس الفن البسيطة المبطنة في داخلي لترتقي بها إلى درجة ما يسمى بالابداع بكل ما للكلمة من معنى. تنعطف بنا الشاحنة شمالا بضعة امتار حتى نصبح في مكان لا تعلم بماذا تنعته هل هو حي؟ قرية؟ ام ماذا؟..

هو ببساطة فضاء صغير شاسع في آن محاط بمنازل شكل بنائها غريب بلا شك ولكنه جميل دون اختلاف، هو مكان الحياة فيه بسيطة بساطة أهله، ودافئة دفء قاطنيه، لم أره قط لا في الواقع ولا في الخيال، لا في وثائقي أو حتى في أحد روبورتاجات نشرة الأخبار، لم أكن حتى لأصدق أن هناك من يعيش في تلك النقطة الخضراء المدونة على خريطة الجمهورية التونسية تحت مسمى برج الخضراء.

تساءلت: "ترى لماذا هي مجرد حبر على ورق في حين ان الحياة فيها تدب ومعنى الوجود بها اعمق؟" هناك على يمين المساكن بناء صغير علق على باب مدخله "المدرسة الابتدائية ببرج الخضراء"، تلك المؤسسة التعليمية التي تأسست منذ أربعين عاما، تلج إلى الداخل قليلا فتستمع إلى أصوات أطفال تجمعوا في قاعة درس واحدة.. تسترق النظر فتجد تلاميذ جالسين خلف طاولات بيضاء صففت الواحدة إلى جانب الأخرى، ولكن الشيء الغريب الذي يتبادر إلى ذهنك مباشرة ان الاعمار تختلف من تلميذ إلى آخر ومن طالبة علم إلى ثانية.

لم ألبث لحظة حتى وقفوا جميعا محيين بصوت واحد "السلام عليكم ورحمة الله وبركاته" قبل أن يأمرهم معلمهم وليد بالجلوس.. تعرفت عليهم واحدا تلو الآخر فهم ليسوا سوى ثمانية أولاد وبنات، سألتهم عن اسمائهم وبأي مستوى يدرسون… غادة كانت التلميذة الوحيدة في القسم الخامس أما ميساء شقيقتها فكان لها الحظ أن تجد من تنافسه في القسم الثاني وهما زميلاها نادر ومحمد، في حين كانت رويدة هي الأخرى تدرس وحدها في السنة الأولى، وكذلك قصي تلميذ السنة الثالثة، فيما كان ريان ورحمة رفيقي القسم الرابع.

حفاوة الاستقبال كانت لا توصف وأقل ما يمكن أن يقال عنها إنها لا تصدر سوى عن النبلاء، فرقة موسيقية شعبية (طبال)، لافتات وضعت في الواجهة كتب عليها "منارة الصحراء ترحب بضيوفها الكرام"، السيد سفيان مدير المدرسة، الكل جاء ليلقي التحية ويعرض الخدمات… كل ذلك في كفة وما قابلتنا به العائلة التي استضافتنا في بيتها في كفة أخرى، مبروكة وهادي زوج تشابها فتعاشرا. أغرقانا بكرمهما فجعلانا نخجل، بيتهما بسيط ولكن حس المحبة فيه طغى على كل مظاهر الترف والرفاهية التي يمكن أن تقابلك في البيوت العصرية التي اعتدناها في حياة المدينة.

كنا وصلنا حوالي الساعة الحادية عشرة صباحا لتغطية الحدث الذي أعدت له شركة اتصالات تونس والذي كان سيحضره وزير التعليم العالي والبحث العلمي وتكنولوجيا المعلومات والاتصال توفيق الجلاصي. طال الانتظار وهاهو الوزير يطل علينا على متن مروحية تابعة للجيش الوطني رفقة والي تطاوين وعدد من المسؤولين السامين في الدولة؛ عقيد، عميد، كاتب دولة وغيرهم. المهم أن لهفة الوصول عبر البر فاقت تلك التي رافقت الوزير وصحبته عبر الجو. استقبله الجميع مرحبا.. ولكنني أحسست أن الفرحة كانت أقل من تلك التي كانت في عيون اهل المنارة عند لقائنا..

جاب الوزير المنطقة.. زار محطة توزيع التغطية الخاصة باتصالات تونس.. عاين المكان.. ذُبح على شرفه خروف.. وتقدمت له أكلة "الكسكسي بالمسلان"، ثم غادر مثلما جاء على متن تلك المروحية التي لا يستطيع أن يسمح صوتها المدوي لأحد أن يسبح في سحر الصحراء أو يفكر مجرد التفكير في ما تحمله من أسرار الجمال.. غادر لنواصل نحن ما أتينا لتحقيقه عن جهل ودون أن نعلم أننا كنا قادمين لفعله.. لنشعر بقيمة الوجود.   

على هذه الأرض ما يستحق الحياة

قسط قصير من الراحة لتاخذني مبروكة فيما بعد في جولة حول عالمها الصغير، حيواناتها الصغيرة التي تعتني بها، أرضها البسيطة المليئة بروح العطاء، في الحقيقة هي مساحة لا تتجاوز المائة متر مربع ولكنها النعيم بعينه.

على الساعة العاشرة ليلا تقريبا، انتقلنا إلى مساحة أمام المدرسة هيئت لسهرة على شرف إطارات وعمال الشركة الجهوية بتطاوين لاتصالات تونس المشغل التاريخي للهواتف في بلادنا، وضيوفهم من صحفيين وزملاء لهم بالعاصمة تونس، ذلك الفريق الرائع الذي استمتعنا معه برحلة لا يمكن الا الاستمتاع فيها… شعر، غناء، صخب، ضحك، أجواء رائعة ومشاعر فرحة تبادلها الجميع عبر نسمات الصحراء.

أجواء علمت أن الجهة لم تشهدها منذ أكثر من سنة عندما أقاموا زفاف أحد الجيران، وفرحة لا ترتسم كل يوم على وجوه أهلها، ومثلما اعتاد أهل الجنوب جلست النساء مع أطفالهن على حدة والرجال في جهة أخرى ليصفقوا على أنغام الطبلة والمزمار ويستمعوا إلى إبداعات الشعر الشعبي أو البدوي مثلما يسميه البعض.

جلس بجانبي سائلا عن راحتي.. شكرته وبدأنا نتبادل أطراف الحديث.. ولم أصبر حتى بحت له بأني لم أكن أتصور أبدا أن هناك من يعيش على هذه الأرض البعيدة، فازداد استغرابي عندما أخبرني بأنه زاول تعليمه الابتدائي في المدرسة التي هو اليوم أحد معلميها رفقة زميليه سفيان ومراد، وطلب مني راجيا أن أعرّف ما استطعت من التونسيين أن الحياة دابة على المنارة، هناك من يعيش فيها، يكبر، يغادرها ليتعلم، ويعود إليها من جديد ليخدمها بروحه بل بدمه إن لزم الأمر، فهي قطعة من تونس وتونس قطعة منها، متسائلا: "لماذا نقول دائما من بنزرت إلى بن قردان عندما نريد أن نحدد بلادنا من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال متناسين أن برج الخضراء هي نهاية الجهة الجنوبية وعلى أرضها من يستحقون الاعتراف بأنهم أحياء؟"

جف حلقي وفقدت القدرة على الاجابة ووعدته أن أبلغ رسالته وغادرت للنوم الذي لم يلامس جفني لحظة قبل أن ننطلق في رحلة العودة عبر نفس الطريق ليتكرر السحر من جديد، تاركين وراءنا قصة قصيرة في الزمن عميقة في المعنى، ومكانا حان الوقت ليذكره التاريخ وتتذكره الدولة، (رغم الجهود المبذولة من طرف عناصر الجيش الوطني من أصغر جندي إلى الأعلى رتبة) ويلتفت له المتحدثون عن المساواة وحقوق الانسان والعدالة الاجتماعية…

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.