بقلم محمد اليوسفي –
مثّل صدور تقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة خلال الفترة الماضية أحد أهم الأحداث التي أثارت الكثير من الجدل والمماحكات على الساحة الوطنية في مستويات ومجالات عدّة، ولعلّ حالة الاستقطاب الأيديولوجي والسياسي التي طفت مجددا في المنابر الاعلامية وصفحات التواصل الاجتماعي على وجه الخصوص تؤكد أهمية وحساسية الباب الذي طرقه أصحاب المبادرة.
وبعيدا عن التشنج في الخطاب الذي اكتنف مواقف بعض القوى المحافظة التي انزلقت في أتون التكفير والشيطنة المدانة فإنّ الديناميكية الفكرية والمجتمعية التي ساهم في خلقها مضمون التقرير وما احتواه من مقترحات وتوصيات، وجب فتح نقاش مجتمعي حولها في كنف احترام مختلف الآراء والمقاربات طالما اتسمت بروح التسامح والانفتاح على الآخر، لاسيما وأنّها في حقيقة الأمر تعبّر بشكل لا مراء فيه عن ظاهرة صحيّة في جسم اجتماعي وفضاء جغرافي عانى على امتداد عقود من الزمن من ويلات الاستبداد السياسي ومخاطر التطرف الديني وجمود العقل.
لقد جاءت تضاعيف التقرير حبلى بالمضامين الاجتهادية انطلاقا من إرادة تطوير المنظومة التشريعية في تونس تناغما مع روح دستور الجمهورية الثانية الذي أفرد الحقوق والحريات بباب كامل مازال يعيش حالة من الاغتراب والتنافي إزاء ترسانة من فصول القوانين المتخلفة الموروثة عن حقب خلت بعضها تمتد جذورها إلى الحقبة الاستعمارية، وتساوقا مع التوجهات المعاصرة في مجال كونية وشمولية حقوق الانسان والحريات الخاصة وفي تقاطع وثيق مع المعاهدات والمواثيق الحقوقية الدولية عموما.
إنّ التوصيات والمقترحات التي تضمنها تقرير اللجنة وتبلورت حول فكرة إحداث مجلة تعنى بالحقوق والحريات الفردية لم تكن في قطيعة مع سيرورة تجربة التحديث الاجتماعي والاصلاح العقلاني التي دخلت غمارها تونس منذ القرن التاسع عشر لتكون بذلك رائدة في العالم العربي والاسلامي، بل لعلها هذه المرّة كانت أكثر جسارة وجرأة في تخطي حاجز الارتباك والخوف من تبعات فتح طريق إعادة بناء الانسان التونسي المتصالح مع ذاته ومع الآخر على قاعدة المواطنة الراشدة والحريّة المسؤولة.
من الاجحاف اليوم الاكتفاء بتقديم مواقف عقائدية متحجرة ومجتزأة تجاه مضمون التقرير يصادر فيها الحقّ في التفكير والاجتهاد والمبادرة دفاعا عن إنسانية الانسان وقدسية الفرد في مجتمع ليس بمنأى عن قيود فكرة الجماعة وتمثلاتها لمفاهيم الأغلبية والسمع والطاعة لأولي الأمر فضلا عن الهويات القاتلة للابداع والتحرّر والتطلع لأفق أرحب من المنظور الحقوقي.
كما أنّ الاكتفاء بالجلوس على الربوة والارتهان لحسابات الربح والخسارة الانتخابية والسياسية تحت تأثير سطوة رهانات المرحلة الراهنة وتحديات الاستحقاقات التشريعية والرئاسية المقبلة هو سلوك لا يختلف كثيرا عن امتهان التقيّة الحداثوية التي لا يمكن أن تقود سوى إلى الهاوية والنكوص الثقافي والاجتماعي.
إنّه لمن الواجب الوطني والحضاري التعامل مع هذه القضية كأولوية لا تتعارض مع مسار استكمال المأسسة الديمقراطية من الناحية السياسية وفي تكامل مع معترك معالجة المعضلة الاقتصادية ذات الأهمية القصوى في إطار مشروع فلسفي وثقافي وتربوي يعلي من قيمة الفرد وحقوقه العامة والخاصة على حدّ السواء وضمن رؤية استراتيجية تسير في اتجاه بوصلة التاريخ خارج بوتقة القوالب الفكرية الجامدة.
فعلا يحقّ لنا أن نفخر بأنّنا تونسيون مادمنا نستنشق أشواق الحريّة وننظر إلى معركة الحريات الفردية والمساواة على أنّها حتمية تاريخية سينتصر فيها العقل الاصلاحي المدني المتحرّر من أعباء ارث الماضي السحيق ولو بعد حين.