بقلم: طارق القيزاني
في ذروة الحرب الأهلية الإسبانية كتب الأديب الأمريكي الراحل ارنست هامنجواي رائعته "لمن تقرع الأجراس" التي صدرت عام 1940، في وقت كانت قوات المحور تقود العالم إلى مصير مجهول. في سياق مشابه لما نعيشه اليوم، أفردت الرواية صفحاتها للصراع المشتت بين الموت والحياة، بين أن يقدم البطل روبرت جوردون على التضحية بنفسه عبر تفجير جسر بما يسمح بتوجيه دفة الصراع مع الفاشيين، وبين أن يقلع عن فكرة الانتحار والموت في سبيل ألا يستسلم للعدو، من أجل فرصة البقاء قيد الحياة.
ثمة خيط رابط بين ما يستعرضه هامنجواي من وحي الحرب الاسبانية المروعة وبين الايحاءات التي يرمز إليها عنوان الرواية، وهو عنوان مستوحى أصالة من مقدمة التأملات الميتافيزيقية للشاعر الانجليزي الواعظ جون دون في القرن السابع عشر، حول وحدة المصير وعلوية الذات البشرية.
إن ما كان يعاب على هامنجوان من الاستنجاد المبالغ فيه بمفردات أدب القرون الوسطى لم يكن أمرا اعتباطيا، فما كان يعالجه الأديب في روايته لم يكن أمرا مستجدا إزاء معاناة البشرية في العصور الوسطى ولا هو أيضا غريبا عما نعيشه اليوم في القرن الحادي والعشرين. فمن رحم المعاناة، حربا كانت أم وباء، كتب أيضا ألبار كامو رائعته "الطاعون" ورسم بيكاسو لوحته الشهيرة "غورنيكا".
ولكن بالتدقيق، فإن ما كان يردده "جون دون" من بين تأملاته قبل نحو أربعة قرون، من أن الانسان ليس جزيرة مستقلة بذاتها وأن ما يصيب جزأ من الجسم الأوروبي هو كمن يصيب القارة بأكملها، كلام يحتاج إلى أن يسمع على نطاق واسع بين العواصم الاوروبية اليوم والعالم بصفة أعم، فليس هناك من معنى لقرع الأجراس إن لم يكن لافتا لما يحيط بالمجتمع الدولي قاطبة، تماما مثلما كان يسعى هامنجواي إلى التنبيه له من فظائع نظام فرانكو عبر روايته.
اليوم يكاد فيروس كورونا المستجد يقلب المفاهيم رأسا على عقب، إذ أن الإصرار على التنبأ بتشكل عالم مغاير في فترة ما بعد الأزمة الصحية العالمية مثلما كان الحال بعد ازمة الكساد العظيم في عشرينات وثلاثينات القرن الماضي، أمر لا يبدو مبالغ فيه.
وزير الخارجي الألماني السابق سيغمار غابريال لم يتأخر في تبني هذا الموقف وإن كان موجها بالأساس الى أكبر تكتل اقتصادي في العالم، الاتحاد الأوروبي، عندما صرح لإحدى الصحف الألمانية تعقيبا على التعاطي الأوروبي مع تفشي الفيروس"يبدو اننا نملك اتحادا أوروبيا شكليا، لقد أخفق كليا في أول اختبار له منذ تأسيسه".
قد لا تنتهي الأزمة بتفكك الاتحاد، غير أن فرضية أن يمنح الوباء تعريفا جديدا للعلاقات الخارجية للتكتل تظل قائمة. يكفي أن الإيطاليون بدؤوا في تكرار السؤال بصوت مرتفع حول مدى شرعية الاستمرار في الحديث عن التضامن الأوروبي بعد أن تركوا لمصيرهم في مواجهة الوباء، لا سيما في مراحل انتشاره الأولى.
للحظة فقد الاتحاد الدواعي التي قامت عليها السوق الأوروبية المشتركة ابان الحرب العالمية الثانية كنواة أولى للتكتل الذي نشاهده اليوم، بهدف التعايش المشترك واحلال السلام بدل الحروب، وبناء قوة اقتصادية موازية للولايات المتحدة الأمريكية، كل ذلك يكاد يفقد معناه أمام صدمة وباء كورونا بالعودة خلف الحدود المغلقة واضمحلال مشروع المواطن الأوروبي بين عشية وضحاها.
وحتى استجابة الدوائر الأوروبية بشأن مستقبل منطقة اليورو لم تخرج عن مقارباتها الاقتصادية حول خطط الانعاش في وقت تصارع فيها ايطاليا الموت يوميا وخلفها اسبانيا، مقابل تحرك مرتبك ومتأخر للجارتين ألمانيا وفرنسا، قاطرتي الاتحاد.
لقد اهتزت الرأسمالية في أزمة عشرينات القرن الماضي ونجحت في الاستفادة من المدونات الاشتراكية للنجاة بنفسها والاستمرار، لكن لم يمنع ذلك من أن يتلقى العالم صدمة جديدة في الأزمة المالية عام 2008، وهو اليوم على شفا أزمة جديدة قد تضاهي الكساد العظيم.
فهل اتعظ العالم الرأسمالي من سقطات الماضي؟ لا يبدو كذلك على الأقل بالنسبة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي استبق الأزمة بالانسحاب من اتفاقية باريس لحماية المناخ بمجرد دخوله البيت الأبيض، بحجة لا قناعات واقعية للربط بين الآثار الاقتصادية والاحتباس الحراري، غير أن الدلائل العلمية ها هي تثبت اليوم تحسنا ملحوظا للهواء في أرجاء الأرض وفي الصين نفسها، بفعل تدابير الحجر الصحي العام المفروض في أغلب دول العالم.
وبخلاف أرواح الآلاف حتى الآن ممن دفعوا كلفة تهاون السلطات المركزية في الدول الرأسمالية، وحتى الفاشية الاقتصادية في الصين، في حماية المواطنين مع بداية تسرب عدوى الفيروس قبل تمددها الى باقي دول العالم، فإن الجشع الرأسمالي نفسه سيدفع إلى خسارة مضاعفة مع توقعات منظمة التجارة العالمية بإحالة ما يناهز 25 مليون نسمة على البطالة القسرية، وبالتالي إشاعة المزيد من الفقر والبؤس، ما يمثل انتكاسة حقيقية للأهداف الانمائية للألفية التابعة للأمم المتحدة.
لقد كانت المدارس النقدية في القرن العشرين ملاذا للناقمين على الرأسمالية وصوتا معدلا لها، وفي حين هجر كثيرون ما كان ينظر له رواد المدرسة الوجودية، فإن الجائحة العالمية قد تمثل في تقدير الكثير من المفكرين، نواة أولى لبداية مراجعات فكرية وفلسفية حول مركزية الاسنان ومدى وجاهة الاستمرار في هذا الخطاب المزيف، في وقت تشتد فيه المضاربات السياسية الدولية في مسعى محموم لتأكيد التفوق العلمي والنفوذ في سباق السيطرة على فيروس منفلت من المخابر، أو ربما غير ذلك.
*طارق القيزاني: صحفي تونسي