الكاميرا الخفية الرمضانية من “سخرية الموقف” إلى “تسخير الموت”

بقلم: أمين بن مسعود-

هو "رمضان التلفزيوني Le Ramadan télévisé " كما أسماه الدكتور العربي شويخة في بعض دراساته العلمية العميقة, حيث تتسابق القنوات الفضائيّة خاصّة على طبق من البرمجة الإعلاميّة قادر على استدرار عيون وأفئدة الجمهور الذي عادة ما يعود إلى الاستهلاك الإعلامي تزامنا مع ساعة الإفطار.

يؤكّد رمضان التلفزيوني القاعدة الإعلامية لأصحاب المقاربة النقدية في علوم الإعلام والاتصال بأنّ المتقبّل هو صانع الرسالة ويقرّ أيضا بصحّة المسلكيات التفسيرية لتحليل الخطاب المشددة على انّ السياق والمقام هما مجالا تحديد الرسالة الاعلاميّة. 

ذلك أنّه بالنظر إلى الحالة النفسيّة والروحانية والوجدانية التي يكون عليها صائم الشهر المعظّم , والذي سيتزامن هذا العام مع ميقات توديع الربيع واستقبال الصيف, فإنّ المحددات الكبرى للمضمون المرئيّ ستكون بتغليب المضامين الدينية والترفيهية دون تغييب للمضامين السياسية والثقافية. 

لم تنتظر القنوات الفضائية سواء منها المحلية التونسية أو العربية طويلا لبثّ باقة برامجها للشهر الفضيل, والتي تبدأ عادة بالمسلسلات الفكاهية وفق ما يسمح به هامش "الصوم والقنوت" وتمرّ حتما ببرامج الكاميرا الخفيّة , الخيط الناظم تقريبا لكافة القنوات الفضائية الساعية إلى استقطاب الجمهور وتصدّر استبيانات قياس المتابعة وبالتالي استدرار الإشهار والعائدات المالية الشحيحة خارج شهر الصدقة. 

التنافس على الحيّز المالي المحدود بين القنوات الفضائيّة, أفضى إلى تغيير هيكلي وجوهري خطير في مفهوم الترفيه المتعلّق تحديدا ببرنامج "الكاميرا الخفيّة".

فالمقصود بالبرامج الفكاهية بين القنوات الإعلامية والجمهور العامّ, المنضوية صلب الكاميرا الخفية متمثّل في صناعة الورطة للشخصية المحوريّة عبر وضعها في مأزق مفتوح ومحدود زمانيّ ومكانيّ وغير تصعيديّ. 

الهدف الأساسي من صناعة الورطة في برامج الكاميرا الخفية متجسّد في استجلاء قدرة الشخصية المحورية على التعامل ضمن سياق محدّد يضحك الجمهور ولا يحرج الفاعل. 

الخطير اليوم , من الناحية الأخلاقية والمهنية الإعلامية للكلمة أنّ الكاميرا الخفية استحالت اليوم طريقة لصناعة الأزمة والمحنة عبر وضع الشخصيات المحورية في معضلة مغلقة طويلة زمنيا والأكثر من هذا أنّ منسوب الخطر والفاجعة والصدمة تصعيدي بالتواتر مع الوقت. 

هنا يصبح الهدف من الكاميرا الخفية ليس صناعة الضحك من الموقف وإنما إثارة الهزئ والاستخفاف والسخرية من الشخصية التي توضع محلّ تكبيل نفسيّ مثير للشفقة.

هكذا تتحوّل الشخصية المحورية من الكاميرا الخفية إلى ضحية من ضحايا ماكينة الحرق النفسيّ والاحتراق الداخلي واللعب بالأعصاب والتصعيد في صناعة الكارثة. 

الغريب أنّ كينونة الكاميرا الخفية التي كانت ولا تزال في الكثير من الدول المحترمة قرينة لحبّ الحياة والاستمتاع بالقرب من جذوة الأمل تصبح في قنواتنا المحلية والعربية متلازمة مع فرضية الموت والاغتيال, بل والأكثر من هذا تعمد بعض البرامج للاستثمار في الترعيب والترهيب من لحظات الغرغرة لإثارة الهزء بالإنسان الضحيّة.

الكاميرا الخفية في عالمنا العربي التعيس هي جزء من حالة الاستثمار في الموت والهلاك, فلئن كان بعض الفاعلين الرسميين يوظفون حالة الموت الجماعي والتعذيب والتنكيل بالناس لإخافة الرأي العام من الإصداع بالحقيقة والمطالبة بحقوقهم الشرعية , ولئن جيّرت قوات الاحتلال الأمريكية والإسرائيلية "الموت" لضرب المقاومة الشعبية المسلحة منها والرمزية ,فإنّ هذه البرامج تستغّل تخوم الموت لاستدرار الضحك القريب من الشماتة ولضرب أبرز مقوّمات الفعل الأخلاقي في عدم دفع الإنسان إلى حالة اللاعقل… 

المفارقة انّ هذه البرامج – مثل الكاميروات الخفية لرامز جلال وهاني رمزي ومحمد فؤاد في مصر , وبعض القنوات التونسية التي دخلت على خطّ الرداءة- تنقلب على مقاصدية الضحك من الموقف الطريف مع احترام الشخص ,نحو التأسيس لشيزوفرينية الشخصية العربية التي تستهتر وتسخر من حالة ووضعيّة إنسان فقد كافة أسباب الحياة,في شهر عنوانه المحبّة والتقرب والإحساس بالإنسان الجائع فكيف بالإنسان القريب من الهلاك…

هو منطق تسليع وتشيئة الإنسان, والعبث بحياته وبموته أيضا, استدرارا لأموال العائدات الإشهاريّة وبملايين الإعجابات على صفحات التواصل الاجتماعيّ , ولتكوين الثروات والشهرة على حساب إثارة غريزة حبّ البقاء ضمن منطق اللابقاء, وبالتالي الضحك ملء الشدقين على شخصية بريئة تستحثّ غريزتها الحياتية على الإقدام وتفرض عليها لعنة الكاميرا الخفيّة الإحجام… 

ولئن كان من واجب المثقفين العرب والإعلاميين الشرفاء والهياكل النقابية , الدفاع عن حرمة الإنسان وصون الكرامة الإنسانية من أخطاء السلطة الإعلامية فإنّ من باب أولى على ذات الفاعلين الوقوف بقوة وحزم ضدّ مقولة صناعة الموت الناعم وماكينة الاستهزاء من الإنسان المغرّر به والمُغَرغَر بسكرات الموت… إلا قليلا… 

 

 

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.