“القرينتا” وجرانيت العالم…

بقلم الكاتب: ميلاد خالدي

لقد علّمونا أن للكلمة طاقة نفّاثة متحوّلة، فما بالك إن كانت تلك الكلمة جزء من إرث شعبي لا يفرّط  فيه أحد لأنّها  تُجسّد روحا انتصارية قتالية خارقة، كانت سببا في تحقيق طفرة لا يحسّ بخلجاتها إلاّ الفرد الوثّاب والمجتمع الذي يريد أن يسبق عصره. فأين نحن من الڤرينتا، ڤرينتا الفرد والمجتمع، تلك الڤرينتا التي تحنُّ إلى صلادة جرانيتها وأجيج نّارها مهما اختلف المكان والزمان واللسان و المعتقد؟

 
الڤرينتا المحليّة…
كثُر في الآونة الأخيرة، في تونس، استعمال لفظ الڤرينتا أو كما تردُ باللهجة التونسية "خرِّج الڤرينتا لفيك". فإذا تمعّنا أصل كلمة الڤرينتا سنجد جذورها في اللغة الإيطالية grinta والتي تعني العزم والبأس ورباطة الجأش والصلابة والقدرة على تجاوز الصعاب والازمات بروح معنوية عالية ومتدفّقة. وهو لا يخفى أنّ هذه الكلمة لا تبتعد كثيرا عن كلمة granite  أو صخر الجرانيت، المتشكّل رأسا من الحمم البركانية. يعني أنّ الجرانيت جمع صلابة الصخر وحرارة النّار المنبثقة منه، المُنطلقة من قيعان الأرض، الصاعدة من حنايا الروح وشغاف القلب.
 
تلك النّار المتأجّجة التي تحوّل الهدف إلى انجاز والرغبة إلى إدراك والضعف إلى قوّة سماءها تطلُّ على الداخل وليس على الخارج. الڤرينتا هي كلّ ما يأتي سائلا ثمّ يتصلّب ويتشكّل، كلّ ما ينبثق من الدواخل و يُكمل السير والطريق، كلّ شيء يأخذ روحا جديدة ويبقى وفيّا للأصل والعمق.
 
"خرِّج الڤرينتا لفيك" تتناهى الى مسامعنا لا سيّما في المباريات الرياضية والمحافل الكروية وكأنّ  الڤرينتا لا تشتغل إلاّ في المجموعات والتجمّعات. وهو الأمر الذي يثبت فيه العكس في كلّ مرّة فالڤرينتا لا تخرج إلى السطح ولا تُفعّل ولا تُمكّن فريق كرة القدم مثلا من تحقيق انتصارات وحصد كؤوس وألقاب.
 
لماذا ؟ لأنّنا نتفوّه بها دون أن يكون لنا وعيا بثقلها. وهل هي تنبجسُ من قناعاتنا أم أنّنا سمعنا الاخرين يرددونها فهرعنا نردد دون روح تهزّنا أو قلب خفّاق يدعونا؟ ظننا أنّ الڤرينتا تعمل من منطلق الجماعة وأنّها  تتشكّل من وعي المجموعة والإحساس بالمصير المشترك وبالمصلحة الجماعية. حيث أنّها تنتفي و تغيب وتتبخّر عند وصولها إلى الفرد. هذا منافي للصواب تماما لأنّ هذا الإحساس  يضيع في المجموعة ويتعثّر في غياهب الجموع لأنّ كينونتها تقول أنّي ذات تقف على صخرة صلدة، فلا تُحاول ارباك صمودي. فلو غرسنا الڤرينتا في كلّ شخص منذ الصغر لما ألفينا هذا الكمّ الهائل من الخيبات في الفرق والجمعيات الرياضية.
 
ولسائل أن يسأل لماذا أبطال الرياضات الفردية يحرزون الألقاب والتتويجات، بينما الرياضات الجماعية ترواح مكانها وتستنزف أموال الشعب هدرا؟ إذ أنّ حجم العزم والتصميم على الانتصار ومدى المتانة النفسية والجسدية لدى اللاعبين (كذوات منفصلة) يتجلّى بصورة أوضح وأقوى وأرفع ممّا هو موجود في روح الجماعات المتحلّلة. إذن كلّما كانت الڤرينتا قويّة في الأفراد ستكون أقوى في الجماعات وكلّما تكون الڤرينتا باهتة في الأفراد ستكون باهتة على أجنحة الجماعات.
 
هل الڤرينتا هي مُحصّلة نفسية ومعنوية أم هي نتاج اجتماعي واقتصادي وثقافي يُميّز شعبا دون غيره؟ هي كلّ هذا وذاك، هي تنشئة منذ الصغر وعملية ترسيخ لقيمة ركوب المغامرة والتحدّي قوامها المتابعة والتدرّب والمران، فضلا عن أنّها تتأثّر بمحيطها الخارجي وتتفاعل مع الأزمات الاجتماعية والهزّات الاقتصادية. هي بكلّ بساطة صخرة تنحتها طبيعة الإنسان والزمن فهناك من يجعل منها تحفة فنيّة وهناك من يجعل منها حجرة عثرة في الطريق، وشتّان بين الإثنين. في نهاية المطاف، فالتونسي شخصية شاكية متذمّرة، لا يملك النفس الطويل لمجاهدة تحديّاته الفردية والجماعية وسريعا ما يغرق في كأس ماء.

الڤرينتا وجرانيت العالم…
إذا كانت الڤرينتا التونسية مستوردة وغريبة عن بيئتها فأفرزت نجاحا نسبيا ومضطربا، فهذا المصطلح يجد مناخه في أراضي أخرى. فالروح القتالية والانتصارية تتجلّى في الريمونتادا Remontada الاسبانية، ذلك العنفوان من أجل تحقيق الانتصار بعد ضعف أو فشل أو انتكاسة، تلك العودة القويّة بعد ضمور و  قصور، هو تسلّق جدران المستحيل اللزجة. إنّه جرانيت الروح حين يُصقل من تاريخ الأمجاد فكلّ انتصار فردي هو انتصار وشحذ لروح الجماعة.  هذا الانتشاء لا يبتعد كثيرا عن السيسو الفنلندي، عندما تذوي الطاقة و تخور القُوى و تذبل جذوة الأمل، يصعد السيسو إلى السطح   ليُسند سقف الروح و يدعم أرضية القلب ويُأجّج شعلة التحدّي وبذلك يستمرّ الإنجاز الفنلندي ويُعتدّ به كفخر للشخصية الوطنية. إنّ السيسو الفنلندي ليس مجرّد جرانيت صخري حممه تُلفح الهمم و ناره تُنير درب الضعفاء والمتوكّلين، إنّها ثقافة كاملة ضاربة في التاريخ مفادها: تجلّد كي تكون.
 
تختلف الألسن و تتباين اللغات لكنّها تّتفق على الروح والمعنى، ففي الصّين مثلا مفهوم الڤرينتا تُترجمه Qiang qi lai وهو أن تصبح  قويّا وFei yue أن تقوم بقفزة  نوعية وتُحرز تطوّرا باهرا. كلّ هذا لا يأتي عبثا فجميعها انعكاسات لموروث  ثقافي فكري طاوي كونفوشيوسي، يُؤمن بالتشي أو طاقة الحياة.
 
فسواء كانت الثقافة شرقية/شرق آسيا أو غربية فهي تشترك في الإنسان الأسمى أو الخارق أو السوبرمان Übermensch  أو أوبامنش بالمصطلح  الألماني النيتشوي. إنّها نسخة متطوّرة من إنسان جبّار قويّ البنية، ذو تركيبة نفسية متينة لا تُقهر، لا يستسلم عند أوّل امتحان، كما أنّه يعمل على رفع عقلية مجتمع بأكمله.
 
فالڤرينتا هي رمزية الجرانيت القافزة من الأرض نحو الروح قبل أن يحّللها العقل وينفّذها القلب، فالرمونتادا هي ذلك الصخر النّاري المتطفّل نحو عنان السّماء، أمّا السيسو فهو بذرة الخلق الأوّل حين نشكّ في مصدر وجودنا  وثباتنا. Qiang qi lai وFei yue هما سبيلان أطرافهما مزروعة خطوات لا تراها تتقدّم إلاّ في أثير السموّ ومعراج العوالم المتفرّدة. أمّا الإنسان الأرقى فهو ذلك الكائن الذي يريد الخير لنفسه ولقرينه. إنّها الڤرينتا التي تستعر في شعوب ما، لكنّها تنطفئ في شعوب أخرى، ربّما لأّنّنا نركض وأيدينا منغمسة في جيوبنا. ربّما !! من يعلم!!

 

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.