يسود الحديث هذه الأيام عن وجود "مال فاسد" بصدد اكتساح الحياة السياسية. أقول انه علميا لا وجود لمال فاسد، فالمال هو المال، وهو آلية ابتدعها الفكر البشري لإدارة وتبادل المجهودات البشرية من خدمات ومصنعات ومنتجات. أما الفساد فيكمن في الأفراد والمجتمع. فهناك سلوك فاسد وثقافة فاسدة ووعي فاسد … الخ.
في ما يخص حضور "رجال الأعمال" على رؤوس عديد القائمات الانتخابية أقول ان هذا المشهد طبيعي وموجود في كل البلدان. وفي هذه النقطة لا أتحدث من منطلق تبرير إيديولوجي أو غير ذلك. إنما أشير إلى أن حضور رجال الأعمال في العمل السياسي هو واقع سياسي اجتماعي بغض النظر عن إيجابيته أو سلبيته. أما في ما يخص الحديث عن أن زواج المال والأعمال بالسلطة سيؤدي إلى الفساد والتهرب الضريبي والمحسوبية، فأقول ان هناك نظريات حديثة تتحدث عن وهم الديمقراطية باعتبار نزعتها التبريرية الطاغية حتى في المجتمعات التي تتميز بموروثها الديمقراطي العريق ومؤسساتها الدستورية القوية ودينامياتها الفكرية والإعلامية المتّقدة.
إلى حد اليوم لم يتوصل الفكر والوعي البشري إلى استنباط سياسة طوباوية بدون فساد وبدون صراع مصالح، لأن النشاط السياسي ومهما وقع تجميله وإحاطته بالخطابات الرنانة والآليات الدستورية القوية والمؤسسات الحديثة، يبقى في جميع الأحوال، ولو مع عديد الاختلافات والتزيينات، صورة مصغرة للديناميات المجتمعية والمصالحية السائدة.
فلنفترض أن الحياة السياسية وقع تطهيرها من هذا "المال الفاسد" ولنفترض أن العملية الانتخابية تمت في إطار "الشفافية".. ولنوغل أكثر في الطوباوية لنفترض بأن العملية السياسية أفرزت قيادة سياسية "نزيهة" و "خيّرة". سيتصور الكثيرون أن هذا سيؤدي إلى تعميم الفضيلة في النشاط السياسي والمجتمعي. وهذا فيه كثير من التسطيح والاستغفال. فوجود قيادة سياسية طوباوية وخيّرة في مجتمع يحمل في جيناته عديد السلوكيات والاستبطانات التي لا داعي للدخول في تفاصيلها لأنها قد تزعج الكثيرين، لا يعني أن ذلك سينعكس إيجابا. وإذا لم تُتح الفرصة للمجتمع لخوض مشهد سياسي انتخابي يطغى عليه "المال الفاسد"، ستتحرك فطريا وغريزيا ديناميات مجتمعية وسياسية ومدنية وإعلامية لتحريف المشهد القائم ولم لا إسقاطه تحت أغطية جميلة ومتعددة كالدين والهوية والحريات حقوق الإنسان …إلخ.
الكثيرون يصرّون على رمي المسؤولية على المال. وهذا ما يسمى في علم النفس "إسقاط" ، ولو أن المقارنة نسبية في هذا المجال. وخلاصة القول انه إذا كان هناك خلل فهو موجود في المجتمع بسلوكياته وثقافته وموروثاته.