“نيتشة عيل الله” ضياع الوطن بين الموت والجنون

نورة الشنيتي_

هي إحدى تجليّات عوالم الهوامش والبؤس، في مدينة عادت إلى الحياة، بعد موتها البعيد والمتجدّد ,هكذا يقدم الكاتب والصحفي برهان اليحياوي  روايته الجديدة "نيتشة عيّل الله".
إصدار جديد يواصل فيه برهان اليحياوي  إقتفاء أثار الإنسان المثقل بهموم وطنه والمسكون  بآلام الإنسانية  عبر صرخة تحرر ودعوة الى الحب والتسامح  وقبول  الإختلاف.
  رواية تختفي فيها الحدود بين الحلم والواقع, بين ما هو فكري  وماهو مادي, تخدعك فتظنها  لوهلة رواية خيالية خالصة لتعيدك بعض التفاصيل الى  الواقع عبر تأريخ من نوع خاص لمدينة إحتضنت عبر التاريخ سكانها على إختلافهم.  
فيتقصى عبرها الكاتب الشاب أساطير المدينة ويلاحق مجنونها  "حكيم " بأسلوب قصصي يجذبك لمواصلة البحث عن أصل الحكايا أحيانا ويقحمك في مسارها أحيانا أخرى.
 "نيتشة عيّل الله" تنبش في غياهب الذات المبهمة للبحث عن حقيقة أضاعتها البشرية وسط أزمة الانغماس في اليومي المقيت ومجاراة النسق الجنوني للتغيير. 
وهي رحلة بحث عن إجابات لأسئلة عالقة منذ مئات السنين, فينسج الكاتب عبر شخصية الراوي تفاصيل عالم خاص ويرسم ملامح محيطه, مقتفيا أثار تعرجات شبكة علاقاته في مدينة ماكوندو, البلدة التي إحتضنت 7 أجيال من عائلة "بوينديا"  في  "مائة عام من العزلة" "لغابرييل غارسيا ماركيز".
 اختيار ربما مرجعه إحساس العزلة الذي يحاصر مدينة الراوي منذ مئات السنين.
عندما تكون الفكرة هي البطل… 
حكيم بطل الرواية,إن صح التعبير ,يستمد ماهيته من  كل إنسان مازال يؤمن بقدرة الفكرة على الفعل والتغيير
  فيراوح مكانه بين الحلم والواقع ,لاهثا وراء التحرر من كل القيود, باحثا عن الحقيقة المنبوذة محاولا التجرد من كل ادران العادات والتقاليد  والأعباء الأخلاقية والدينية التي تكبله وتعيق مسيرته نحو النقاء والصفاء ,  متمردا عن  أحكام قطيع تمت قولبته  رفضا للإختلاف.
  كثيرا ما  يتقاطع طريق "حكيم " في الرواية مع بقية شخصياتها التي ترميه "بالجنون "وأبشع الصفات  لتحقيره,  فتراه ساخرا من جهلهم, هازئا بتمثلاتهم  للحياة ومن المنطق الذي يحكمها مما جعلهم سجناء. 
فيحضرنا قول الفيلسوف  الألماني "مارتن هايدغير" "يبدأ التفكير فقط عندما نعرف أن المنطق الذي تم تمجيده لقرون هو العدو اللدود للفكر". 
منطق تمرد عليه الراوي فجعل من أفكاره شخصية مستقلة تجوب أرجاء المدينة ليلا ,تنظف فضلات سكانها .تطارد لصوصها وتحمي ضعفائها.
"نحن دون إستثناء مجانين مع تأجيل التنفيذ "…
 هكذا يقر برهان اليحياوي  في تقديم روايته  "نيتشة عيّل الله" مجانين  مادام الصراع بيننا وبين  المجتمع الذي يحاول  التحكم في  أفكارنا قائم  مجانين لأننا مازلنا نفكر في مدينة تقتل الفكرة قبل أن تراود صاحبها…
مجانين مادامت المحاكم تنصب ومكاتب التحقيق تفتح والتهمة التفكير أو التعبير. 
مجانين مادامت الكلمة سجينة والفكرة رهينة.
الجنون في "ماكوندو" تهمة جاهزة لمن يتمرد على سلطة الدين. 
من يعارض السلطة  مجنون
 من يصدع بالحق في وجه الظلم مجنون.
من يخرج عن القطيع وفكره مجنون. 
الجنون يحاصرك أينما وليت وجهك في ماكوندو وعليك الإختيار إما  الجنون أو الموت  حتى وإن كنت الضحية. 
الموت وهم الخلاص …
عند قراءة "نيتشه عيّل الله" سترصد صراع تخوضه شخصيات الرواية مع محيطها ومع ذاتها تثير إشمئزازك في البداية ولكنك ان تتبعت خطاها كما  فعل حكيم مع "فلة" لإكتشفت ما تخفيه من مآسي.
إن التلصص رغم  ,رفضه مجتمعيا وأخلاقيا, الا انه في "نيتشة عيل الله" يتحول الى سبيل للمعرفة فلولا تجسس "حكيم" على "فلّة" لما إكتشفنا سرها الذي دفنه والدها الأزهر  مدعيا موتها. 
فيختار الشيخ الفقيه «مغسل الأموات » موت  فلذة كبده والنواح على قبرها الفارغ  خوفا من العار.فقد بات  الإغتصاب كما التفكير في "ماكوندو" فضيحة يجب التخلص من  مقترفها أما الجاني فهو محصن إجتماعيا .
"الازهر" رجل الدين الذي يتاجر بكل ما تقع عليه يده تاجر بمأساة وحيدته ودفنها وهي مازالت على قيد الحياة فامتهنت  أقدم مهنة في تاريخ البشرية.
حاول قتلها  لسنوات  ولكن للحياة تدبير مختلف فقد منحتها فرصة  قتله للخلاص من جريمتها. 
خلاص لا يتحقق الا بتطبيق  العدالة, عدالة حاول تحقيقها "يوسف" أستاذ التاريخ المسكون بحب "ماكوندو"  بإضرام النار. في غنائم الظلم بعد عجز السلطة عن مواجهته بل باتت تحميه وتعتقل كل من يحاول الوقوف في وجهه.
فيما إنتهجت  الطبيبة "جوري", جوهرة ماكوندو,  طريقا اخر لتخليص مدينتها من رائحة الموت فإختارت الحب وكلها امل  بغد أفضل تسترجع فيه "ماكوندو" أمجادها.
فتنتزع وعدا من الراوي بالبقاء معا او الفناء إن غمر الطوفان المدينة.  
طوفان بدأ سيله بفرار حكيم من زنزانة قسم الأمراض النفسية بالمستشفى  وتحرر الأفكار من وصم الجنون وسجن  الجهل والظلم.   
" لاحقني إن استطعت" بهذه الجملة يودع "حكيم" الراوي  داعيا إياه الى التمسك بحقه في التفكير وهكذا  تنتهي رسالة "حكيم النبي". 
وتبدأ رسالة الراوي المثقف العضوي فقد سلمه  مشعل الرسالة وحمله مسؤولية تاريخية في تجديد الفكر بعيدا  عن موروث المجتمع والتقاليد والأعراف التي صنعت تاريخه. 
فالمثقف هو ضمير وطنه  مهمته مد جسور التواصل مع مجتمعه لتحقيق التغيير.
من رواية نيتشة عيّل الله:
"صافحتُ المدينة هارباً، مستكشفاً. فاحتضنتني، دون مساحيق، في مختلف أحوالها، وفي كلّ أوقات سوادها. لكلّ ساعة ضيوفها في ليل الضّواحي. حصص النّشاط اللّيلي مقسّمة بشكل واضح، وبعناية لا مثيل لها… بين بائعات الهوى وشقاء الصّبيّ دقيقة واحدة، وخَمس خطوات، وربع قرن (فارق العمر). بعدها يأتي وقت السّكارى. بين تبادل العنف وأفعال الحبّ، في تموّجات حصّتهم، مزاج رقيق فاصل. ينامون. فيأتي دور لصوص اللّيل للسطّو على منازل أشباههم من الثّملين، أو اللّاجئين
 

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.