“نوبة”: تجربة استطيقية حسية داخل عالم المزود

يسرى الشيخاوي-


في التفاصيل يسكن الفن، وفي الزوايا البعيدة عن النظر يلتبس الحسي بالجمالي، وتنتشي الحواس كلّها ومعه الروح، هي تجربة حسية استيطيقية تستسلم لثناياها ماإن تتسلل إلى أذنيك إيقاعات "جينيريك" مسلسل "نوبة" للمخرج عبد الحميد بوشناق.
وبكلمات كتبها الشاعر صلاح الدين بوزيان وغناها الفنانان الهادي حبوبة ولطفي بوشناق، تنطلق الرحلة في عالم "المزاودية" و"الصانعات" و"الوزانة"، وينبعث من بين اغنية "الجينيريك" صوت "العشاق"، مردّدا " اللي عاشق النبي يصلي عليه".
"عشاق الدنيا عقولهم مسلوبة .. والدنيا خضراء مزينة ومطلوبة.. والطبل يدوي والشطيح يدوخ.. والحفلة حمراء والزرد منصوبة ..بعيت مخير في خيوط راسي ودخلت معاهم هي نوبة نوبة.. والدنيا عزوزة شائبة وتشيب.. والناس سكارى عيونهم معصوبة.. بين بخورات وبنادر وحضاري"،  كلمات تختزل معنى أن تنتمي إلى عالم " النوب" و"المزود"، ومعنى أن تبعث الحياة في الجماد، فيتحرّر "البندير" و"الطبلة" و"الدربوكة" و"المزود" من ماديتهم ويرتقون إلى رتبة الرفيق والأنيس.
و"الجينيريك" لم يكن إلا مرآة للمسلسل، عرض بعض التفاصيل التي تسم عالم " المزود"، وتظافرت فيه الكلمة والصورة لتغري الحواس بالمضي في رحلة اكتشاف هذا العالم بتصوّر جديد يتماهى فيه الفنّي والإنساني، من خلال إلقاء الضوء على كواليس تحضير " النوب" من جهة والغوص في دواخل الشخصيات المنتمية إلى هذا العالم.
وبين خطوط "الأكلمة" الصوفية الملونة وخيوط " البخور" المتحررة من الكانون، و"تنقميرة" البندير ، و آهات "المزود"، و"حزامات" الراقصات وحليهن، تسافر حواسك جمعاء في رحلة إلى عالم  يصير فيه الوجع كلمات وإيقاعات تغري بالرقص.


فسيفساء من القصص 
وفلسفة العمل الدرامي  تقوم على إبراز عالم " المزاودية" و"الصانعات" و"الوزانة" من خلال شخصيات اخترعها المخرج عبد الحميد بوشناق من وحي الخيال، وإن كانت بعضها تتقاطع مع أخرى واقعية، وهو ليس توثيقا لعرض "النوبة" وإنّما تدور أحداثه قبل العرض الذي لا يعدو ان يكون إلا تفصيلا زمنيا فيه، وفق حديث بوشناق لحقائق أون لاين.
وفي "نوبة" تتطوّر الشخصيّات وفق قالب غير خطّي، لتشكّل فسيفساء من القصص النابعة من واقع "المزاودية" وعالمهم المفعم بالوجع الذي يتّخذ تجليّات مختلفة حاول العمل الدرامي إظهارها دون مبالغة أو استسهال، ليغرق المشاهدة في التشويق.
هي قصص تختلف خلفياتها وشخوصها لتلتقي كلّها عند "المزود" وما يحمله هذا العالم بين طياته من خيبات ومغامرات و"خطايا "، تترجم إلى كلمات تغنّى مصحوبة بإيقاعات تخاطب عاطفتك وعمقك ولكنها تدعوك إلى الرقص، هي مفارقات عالم المزود، عالم تراجيدي بلمسة فرائحية.
حكايات عن الخيانة والغدر، عن الانتقام، عن التضحية وعن الفراق، عن وجع الأمومة وحيرة الأبوة، عن الفقد والألم وعن الحب، فسيفساء من القصص الانسانية التي تدور في فلك عالم نرقص على ايقاعاته وقد نسهو عن التمعن في تفاصيل الوجع العالقة بالكلمات.
ومن حكاية ماهر( بلال البريكي)  الذي ولد في حي راق وينتهي به الأمر في السجن حيث كانت بداية عشقه لعالم المزاودية على يد باصديق (لسعد بن عبد الله) الذي دفع جريته ضريبة لغدر صديق العمر، إلى حكاية وجدي العشاق، ( عزيز الجبالي) الذي كان همزة الوصل بين ماهر وعالم المزود، إلى حكاية وسيلة ( هلة عياد) الراقصة التي أفقدها زوجها احدى عينها والتي تخلّت عن ابنها لتحميه، إلى حبيبة ( أميرة الشبلي) التي ترعرت بين الراقصات والمزاودية ووجدت نفسها خطيبةابن عمّها  برنقا (الشاذلي العرفاوي) العربيد الذي يخشى الجميع شرّه، هي لا تحبّه ولكنّها لا تضادد رأي والدها بابا الهادي ( البحري الرحالي) الذي أمضى عمرا بين "النوب" و"الربوخات".


كسر النمطية 
وفي مسلسل " نوبة" تتجلّى مقاربة كسر النمطية في كل التفاصيل، ذلك أنّها المرّة الأولى التي يتم فيها تخصيص عمل درامي للحديث عن عالم المزاودية من زوايا مختلفة، ومن خلال الاعتماد على وجوه جديدة في التمثيل، تنتمي إلى عالم المسرح.
وهذا العمل الدرامي، يقتلع المخرج شابا من محيطه "البرجوازي" الراقي، ليقذف به في السجن ثم يلقي حب المزود في قلبه والذي كانت ميولاته الموسيقية غربية مغايرة تماما لهذا العالم، وتواجه شخصية ماهر الاستغراب أينما حلّت في جلسات " الربوخ" و"النوب" على اعتبار أن هيئته وطريقة حديثه لا تشبه مريدي هذا العالم.
وتتواصل معركة كسر النمطية على امتداد حلقات المسلسل ليتحدّى ماهر محيطه والساخرين منه ويثبت ان القادمين  من أحياء راقية أيضا يغنون "النوب"، ذلك أن الأمر لا يرتبط بالأساس بمظهرك الخارجي وإنّما يالمعاناة التي اختزنتها داخلك فصارت "قوالة".
"نسمع المزود ونزيد نحبو نفهمه ونحس بوجيعته موزيكا وفن كيف من هكا ما يخرجو كان من عبد مدمّر"، كلمات جاءت على لسان ماهر، تلخّص علاقة الفنان بموسيقى المزود، علاقة يوثّقها رباط مقدّس سقاه الوجع والدموع وأحيانا الدم.


عن أداء الممثلين
لا شكّ في أنّ الممثل الجيّد هو الذي يأسرك بصدق أدائه وعمق إحساسه، وهو الأمر الذي نجح فيها أغلب ممثلي "نوبة"، نجحوا في تقمّص الشخصيات إلى درجة أنّك تنغمس معهم في  كل أبعاد النص المنطوق منه وغير المنطوق.
وبتطور المسارات الدرامية للأحداث، يثبت المخرج عبد الحميد بوشناق أنّه كسب رهان " الكاستينغ" ذلك أنّ الأدوار بدت وكأنّها نابعة من الممثلين، وأن النص امتداد لهم.
وكان الممثلون متمكنين من النص ومن الحوار إلى درجة أنّك تلاحق تعابير وجههم والكلام المرتسم في اعيتهم وابتساماتهم، وتتماهى في تلك الكيمياء التي أوجدها المخرج بين الشخصيات، وقد تنثّل الممثل بلال البريكي في شخصية ماهر  بين هذه الثنائيات بكل سلاسة.
ماهر الشخصية الوديعة التي تنطوي على الحماسة والاندفاع تجمعه علاقة صداقة مع  شيخ المساجين " باصديق" (لسعد بن عبد الله) وهو مزاودي متهم في قضية قتل منطو ومنكمش، وكان الثنائي تجسيدا للخبرة والطموح.
وأما ماهر وعلاقته بوجدي(عزيز الجبالي)  فهي نموذج للصداقة العميقة بما تحمله من محبّة وهزل وجدّ ومشاكل، وأغلب المشاهد التي جمعتهما لا تخلو من الفكاهة وأن كانت في باطنها درامية، أما علاقته بحبيبة (أميرة الشبلي) فعلاقة حب من أوّل نظرة، علاقة هي عنوان من عناوين التأزم في مسار الأحداث.
وليس بلال البريكي الممثل الوحيد الذي تماهى مع الشخصية بكل ما أوتي من تعابير، فعزيز الجبالي أيضا أظهر قدرة على التكيّف مع الدور بأريحية تجعل المشاهد يستشعر أنه أمام شخصين مختلفين تماما، وهالة عيّاد أيضا تماهت بكل تفاصيلها مع شخصية " نانا وسيلة"، ولعلّ من أقوى المشاهد التي أدّتها مشهد استرجاعها لماضيها واسترسالها في الحديث عن عشقها للرقص.
والشاذلي العرفاوي هو الآخر أقنع في أدائه لشخصية لشخصية "برنقا" وهي شخصية مركّبة ومعقّدة، فهو ذلك " الباندي" الذي لا يهاب أحدا ولكنه بار بأمه ومحب لخطيبته رغم نوبات العنف التي تعتريه أحيانا.
وفي "نوبة" ممثلون قديرون أثبتوا أنهم لم يحتلو تلك المكانة المهمة في عالم التمثيل اعتباطا بل لما في حضورهم وأدائهم من صدق، وهم كل من لسعد بن عبد الله والبحري الرحالي وحسين محنوش الذي عاد إلى الشاشة بعد غياب.


تجربة حسية استطيقية
وفي "نوبة" نجح عبد الحميد بوشناق في أن يغري حواس المتفرج من خلال التركيز على أدق التفاصيل على مستوى الإضاءة والموسيقى، وحتى كتابة النص الذي لا يخلو من الكوميديا السوداء.
وفي كل حلقة من المسلسل يكون المشاهد في مواجهة صورة جميلة رغم سوداوية الواقع، وتفاصيل مغرية بالبحث في عوالم "المزود"، من خلال ذلك النفس الفكاهي الذي يحجب القتامة، ورائحة البخور التي تتسلل إلى أنفك من خلف الشاشة، وصوت خلخال الراقصات وحليهن إذ يتماهى مع إيقاعات الطبل والمزود يغويك بالرقص.
هي تجربة حسية استطيقية، تقحمنا فيها كاميرا عبد الحميد بوشناق إذا ما أخدتنا إلى زوايا غير مرئية من عالم المزاودية، فأظهرت جماليته وإغراقه في الإنسانية رغم كم القسوة والوجع النابعين منه.
 
 

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.