36
يسرى الشيخاوي-
"مشكي وعاود" تعبيرة باللهجة العامية تنتمي إلى معجم لعب الورق، تفيد في الأصل انتهاء جولة من اللعب وخلط الاوراق لانطلاق جولة أخرى، ويستعيرها البعض للحديث عن الأوضاع الاجتماعية والسياسسية والاقتصادية إذا ما بلغت السقف وماعادت قابلة للاحتمال.
العبارة عينها، التقطها المخرج قيس شقير وجعل منها عنوانا لفيلمه الكوميدي الطويل، وهو فيلم يشرّح الواقع التونسي من خلال ثلاث شخصيات تونسية مختلفة اديولوجيا في زمنين إثنين يفصل بينهما حدث الثورة، الأمر الذي يخلق وضعيات كوميدية مضحكة في الظاهر ومبكية في الباطن.
من الحاضر إلى الماضي فالحاضر من جديد تتعاقب أحداث الفيلم وفق نسق سردي غير معقّد، وتتبدّل الشخصيات وتتلوّن لتكشف في كل مرّة عن عمق الهوّة بين المنشود والموجود وبين السلطة والشعب، ووسط التغييرات الكثيرة تظلّ دار لقمان على حالها.
فبالأمس أغلال واليوم أغلال والسلطة هي السلطة تتباهى بأنيابها ومخالبها على المواطن البسيط وتمتصّ دماءه عبر الترفيع في الأسعار تاركة العنان للحيتان الكبيرة تعيث فسادا في البلاد، الامر الذي يستدرّ الأزمات تباعا ويأسر المواطنين في حالة ذهنية لها قراءاتان لا ثالثة لهما فإما هم يستسلمون لليأس أو يطبّعون أما الواقع.
"مشكي وعاود" هي التعبيرة التي تلخّص الواقع التونسي اليوم بعد مرور تسع فنوات على ثورات كانت حبلى بمطالب كثيرة لكنّهم أجهضوها ولم يتحقّق إلا النزر القليل منها، فالوضع في تونس اليوم يتقدّم خطوات إلى الوراء وهو ما يتجلّى في الفيلم من خلال العود بالزمن عشر سنوات إلى الوراء.
في سنة تسعة عشر وألفين تتكشّف الملامح الأولى للفيلم من خلال ثلاثة شخصيات، تكفيري متشدّد ورجل أعمال ثري ومدافع حقوق العمال، ومن يومي الشخصيات الثلاث والمحيطين بهم يوجد المخرج مكامن الضحك، ضحك هادف وغير مبتذل في مجمله.
وإن كان الفيلم لا يخلو من بعض الكليشيهات ومن المباشرتية المربكة، فإنّ السيناريو الذي خلقته قريحة سليم بن اسماعيل يتسم بالاختلاف والطرافة، سيناريو أثار عديد القضايا على غرار الإرهاب والتعصّب والسكيزوفرانيا والتدافع الاجتماعي والتحرّش الجنسي والانفلات بمختلف تجلّياته.
بأسلوب هزلي يراوح بين النقذ اللاذع والسخرية المضحكة، تتشكّل البنية الدرامية على إيقاع نصّ لغته بسيطة تقطع مع التعقيدات ولكنّها لا تخلو من بحث وتمحيص خاصة وأنّ الأمر يتعلّق باختلافات ايديولوجية ما يحتّم الدقّة في اختيار الكلمات لتجنّب الانحياز إلى طرف دون آخر وهو ما نجح فيه الفيلم.
على إيقاع خطاب الشخصيات الثلاث التي تشكّل محرّك الفيلم، يتّضح السيناريو شيئا فشيئا وسط الخطاب المزدوج لأمير الجماعة وسعي رجل الأعمال لإنهاء مشروعة بطرق غير مشروعة وفشل قائد الإضرابات في التفاوض وفقدان العمال لموطن شغلهم.
وبين النفاق الاجتماعي والتظاهر بالورع والتقوى ومظاهر الفساد من رشوة ومحسوبية، تتحرّك شخصيات الفيلم محاولة ان تحافظ على مصالحها في فضاءات مشحونة بالضحك والوجع في ذات الآن، الأمر الذي تواصل طيلة عرض الفيلم.
ولمّا تأزمت الأحداث حينما تعرّت حقيقة "سوسو" التي تواعد الثلاثي الذي يجسّده الممثلون جعفر القاسمي وبسام الحمراوي وكريم الغربي، ثلاثي سيسافر عبر الزمن بعد ما عرّتهم الفتاة المتحيّلة مما يملكون لتنشقّ السماء ويبتلعهم الضوء في مشهد كان القاطرة بين الماضي والحاضر.
عراة إلا من ملابسهم الداخلية يمضون في الشارع على غير هدى ويصادفون وضعيات تفتك الضحك من المشاهدين حتّى تملأ قهقهاتهم أرجاء قاعة الكوليزي، إلى أن تتوسّط الشاشة لافتة فيها صورة بن علي والعبارة الشهيرة " معا لرفع التحدّيات".
وفي سنة تسعة وألفين يعود الثلاثي بذاكرتهم إلى سالف وضعهم أنّى كان رجل الأعمال تجمّعيا برتبة مخبر والتكفيري بائع خمر ومنحرف وقائد الإضرابات شيوعي، والعودة إلى زمن بن علي لم تكن هينة في بدايتها إذ أنّهم لم يتفطنوا إلى سفرهم عبر الزمن إلا حينما ذاقوا ويلات التعذيب في السجون.
وللمشاهد أن يتصوّر عاقبة خطاب متشدّد ووعيد بالتفجير في عهد بن علي وتجريح في شخصه وإن كان من ابن النظام وقرابة من حمّة الهمامي المطلوب للعدالة بتهمة المعارضة، أيام من السجن الانفرادي والتعذيب بكل ألوانه الموجعة، مشاهد مبكية ومؤلمة لكنّ المخرج خلق منها الضحك.
وراء أسوار السجن، تتجلّى قضايا أخرى على غرار الاستقطاب من الشيوعيين ومن الإسلاميين، إلى أن تنجلي هذه المرحلة وينال الثلاثي عفوا احتفالا بختان "ولي العهد"، وعند خروجهم يتذكّر التجمّعي أنّ أمه ماتزال حيّة في ذلك الوقت ويهرول نحو منزله.
وعلى هيئته وصراخها وهي تطرده من المنزل في ذلك الزمن، يتولّد مشهد درامي تستسلم لتفاصيله سريعا وتبكي مثل الكثيرين في القاعة، ومنهم جعفر القاسمي الذي فقد والدته مؤخّرا، ومن مفارقات القدر أنّه من يؤدّي هذا الدور فيما تؤدّي فاطمة سعيدان دور أمه.
وبين صراخ الأم والسباب والشتائم التي تكيلها لابن عشق حضن النظام فصار قوّادا ولهفة ابن عائد من زمن فقد فيه أمه يمرّر المخرج عديد الرسائل لعل من من أعمقها ألّا نثق أبدا في القدر والموت وألّا نضيّع فرصة إسعاد من نحب واحتضانهم قبل أن يصير ذلك مستحيلا.
على أعقاب المشهد التراجيدي، تعود الاحداث بسلاسة إلى الكوميديا على إيقاع محاولة التجمّعي إيقاف مسار الثورة فيما "رفيقاه" في الرحلة عبر الزمن يعرقلانه لتمضي الثورة في سبيلها ليعيدا ترتيب حياتهما من جديد.
فيما كل العالم يتحدّث عن احتراق جسد البوعزيزي ومعه نظام بن علي اختلطت كل الاوراق وصار التكفيري المتشدّد رجل أعمال وفرّط الشيوعي في مبادئه بعد أن اكتشف ان زوجته الحبيبة كان تخدعه والتجمعي صار سلفيا بعد أن واقعه رجل مرّتين على التوالي.
وإن كنت فد دخلت الفيلم بفكرة مسبقة عن كونه لن يحيد عن السكاتشات التي يؤدّيها الممثلون في البرامج التلفزيونية فإنّك ستهدم هذه الفكرة أمام نجاح المخرج في استنطاق السينمائيين داخلهم وقدرتهم على تقمّص أدوارهم دون مبالغة مزعجة.
وبعيدا عن التهريج التافه، أفلح صنّاع الفيلم في نسج ملامح فيلم كوميدي بنفحات دراميا أضحك الجمهور ذبلة ساعتين وأبكاهم أحيانا، وفق قول المخرج قيس شقير،وهو فيلم أعاد صياغة الواقع التونسي القاتم بلغة ساخرة ومنبّهة من المآلات في ذات الآن.
و"مشكي وعاود" حرّر الثلاثي من سطوة "سكاتشات" التلفزة التي "تقولب" الممثلة وتجرّه أحيانا نحو السطحية، وإن لم يغب عنه الجانب التجاري فإنه ايضا لا يخلو من رسالة، وهو الذي قدّم صورة عن المجتمع التونسي خلال عشر سنوات تغير فيها وحملت إيجابيت وسلبيات، على حدّ تعبير شقير.
إلى جانب جعفر القاسمي وبسام الحمراوي وكريم الغربي، تزيّنت تفاصيل الفيلم بحضور الممثلين سفيان الداهش وصادق حلواس وجوليا الشواشي وغيرهم من الممثلين الذين أقنعوا في أدوارهم ويبقى الممثل الشاذلي العرفاوي من نقاط قوّة الفيلم من خلال أدائه ورغم ظهوره القليل رسخ دوره في الأذهان.
ومن الفكرة إلى السيناريو فأداء الممثلين والإخراج الموشّح بالجمالية، تظافرت كل العناصر لتصنع من "مشكي وعاود" فيلما كوميديا يستأهل المشاهدة من قبل جمهور أعيته تراجيديا الواقع التونسي.