يسرى الشيخاوي-
موسيقى صاخبة وغاضبة وثائرة تملأ ركح قاعة الفن الرابع وتقحمك في دوامة من التوتر والحيرة وانت ترقب حركات أربعة ممثلين على الركح، تحصي خطواتهم وتلاحق أنفاسهم وتستنطق تمايلاتهم.
في عناق الأجساد والموسيقى التي أوجدها أسامة الماكني، ينتفي الزمان والمكان وتغدو الخشبة فضاء مشحونا بالرمزية والدلالات وتتهاطل الأسئلة عن ماهية الشخصيات الأربع وتتبدّى الأجوبة في الكوريغرافيا التيروت الكثير.
الشك والتردد والخوف والنقمة والانانية، مشاعر روتها الأجساد المتحركة على الركح واختزلت وضعيات درامية كثيرة تمتد من الثبات إلى الهروب ومن الخلاص الفردي إلى الخلاص الجماعي.
وعلى نسق الكوريغرافيا، تتجلّى ملامح مسرحية "Pas de Signal" من إخراج سامي الجويني وإنتاج شركة ريمان للإنتاج والتوزيع الفني، مسرحية تشدّك إليها بدء بالعنوان الذي يعني بالعربية لا توجد إشارة، وفي الدقائق الأولى للعرض لن تعترضك أية إشارة مكانية ولا زمانية، لا أثر إلا للغموض.
وعندما تسللت اولى الكلمات على الركح، خفت الغموض وباحت الشخصيات بحكاياتها وسط هالة من الدخان المتصاعد، هي الأرواح المحترقة من لهيب الواقع الذي يزداد قسوة يوما بعد يوم.
وهرولة الشخصيات على الركح، خوفها وهلعها، أضحى لها تفسير تشكّل حينما تخاطبت، إنه الوباء استشرى في مكان ما، مكان مجهول ولكنه ينسحب على كل الأماكن اليوم فلكل مكان وباؤه الذي يخنق الموجودين فيه ويسحبهم شيئا فشيئا إلى الموت، الموت في بعديه الحقيقي والمجازي.
طبيبة ومشعوذة و"شيخ" و حفار قبور، أربعة شخصيات أدبرت حينما عم الوباء ولاذت إلى مقبرة آوت الموتى واستوعبت صراعاتهم ودسائس الكل ضد الكل قبل ان تحضن اجساد ثلاثة منهم.
العلم والدين والشعوذة ثلاثة عوالم تماهت على الركح وعرت من خلالها المسرحية مكامن الداء في المجتمعات العربية التي مازالت إلى اليوم ترزح تحت أعباء ممارسات وسلوكيات بالية، مجتمعات مازال صوت العلم فيها خافتا امام بقية الأصوات.
المسرحية خاضت في موضوع استخراج الكنوز وضحايا هذه الممارسة الدموية التي تسلم الأرواح قربانا لحراسها من الجن، وكانت "الوديعة" كلمة السر التي تحمل أكثر من تأويل، خاصة مع بروز الشخصية الخامسة "الغريب" الذي يحاكي في تصرفاته التدخلات الأجنبية.
"الوديعة" التي بذل حفار القبور روحه في سبيلها، أو ليست الحرية أو السيادة الوطنية، أو ليست الوطن، الوطن الذي جعل "الغريب" من مواطنيه الأربعة أعداء يكيلون لبعضهم التهم ويتسابقون نحو الموت.
منذ البداية لا تثق الشخصيات الأربعة ببعضها البعض ولا تقارب بينها إلا لتنافر أعمق، شخصيات مختلفة تحاكي الواقع السياسي في تونس حيث "يتناحر" الفرقاء السياسيون على أعتاب وطن جريح.
ومع حلول الغريب، في ذروة الأزمة ظن الكل أنه طوق النجاة ولكنه لم يكن إلا عنوانا للهلاك، هو لا يحملهم إلى الموت بوجه مكشوف لكن لا احد غيره مسؤولا عن موته، ما أشبه هذا "الغريب" بالدول التي تقتحم دولا أخرى وتقتل أحلام شعبها وتزرع الموت في ثنايا الأوطان.
لكن يبدو أن الموت لم يرد للحكاية ان تموت وتدفن في تلك المقبرة لتنجو إحدى الشخصيات وتروي تفاصيلها وتحدّث كيف تتحول الأوطان إلى مقابر، الأمر لا يتطلب تفكيرا كثيرا، أنانية واستقواء بالغرباء وتخوين وهرب من المسؤولية بعض من الوصفة المرة.
وعلى امتداد سبعين دقيقة، وأنت تتمعن تفاصيل المسرحية تتأرجح بين الخشبة وبين الواقع في تونس، ويشدّك التاويل الفني للسياسي والاجتماعي والاقتصادي، تأويل ما كان ليكون بهذا العمق لولا حبكة النص، نص لسامي الجويني مكتوب بكثير من الصدق والشغف اعتمد فيه على مساهمة الممثلين فجاء مكثّفا ومشحونا بتجارب مختلفة.
أما الممثلون، إشراف تلمومي، وأنس الهمامي، وأيمن السليتي، وأحمد حشيشة وشكيب الغانمي فقد جسدوا في ادائهم انفعلات كثيرة وراوحوا بين الهدوء والعنف وكانوا متجدّدين على الركح بأسلوب قطع الطريق على الملل والرتابة.
وكل ممثل منهم ملأ الركح بطريقته وأعطى من روحه للشخصية حتى بدت مقنعة وصادقة في حركاتها ويكناتها وإيماءاتها وسكونها وغضبها، وصار الفضاء الفارغ من الديكور ممتلئا بطاقتهم.
فيما يخص السينوغرافيا، ترك المخرج الخشبة على سجيتها ولم يلجأ إلى متممات ركحية واعتمد على خيال المتفرج في تصميم تفاصيل المكان في مخيلته، ولكن حضرت الحقائق على الركح لتحيل إلى الترحال وعدم الاستقرار.
الإضاءة التي أوجدها عبد القادر الهرماسي كانت بمثابة الشخصية على الركح، تستدلّ بها على المكان الذي لا يهدو ان يكون مقبرة وتتبين عبرها الخيط الأبيض من الأسود وتقحمك في الحالة الذهنية والنفسية للمثلين.