يسرى الشيخاوي-
كل الساعات معطلة والزمن ساكن لا يتحرّك ونقطة الصفر باقية وتتمدّد لا تعبأ بالوجود ولا العدم، والتكرار يجتر الملامح والتفاصيل والأصوات والخطوات، والعبث يملأ الأرجاء، والأسئلة تتناثر على ركح قاعة الفن الرابع باحثة عن أجوبة ظلّت الطريق إليها.
لا صيرورة ولا جدل في العرض المسرحي "Sorry Beckett" الذي اقتبسه لسعد حسين عن "نهاية اللعبة" في اتساق مع فلسفة صامويل بيكيت الذي يسير بكلماته في طريق دائرية تتلبّس فيها البداية بالنهاية ويموت فيها الموت على أعتاب العبث.
و"Sorry Beckett" هي الإنتاج الأوّل لمركز الفنون الدرامية والركحية بأريانة، من إخراج وسينوغرافيا رمزي عزيز بمساعدة أميمة المجادي وأداء عمار اللطيفي وأيمن السليطي وحمودة بن حسين ومنى بلحاج زكري.
على إيقاع نص مكثّف يغلب عليه التلميح، تتحرّك الشخصيات على الركح لتنغمس أكثر فأكثر في لعبة دائرية لا أوّل لها ولا آخر، أربعة شخصيات تتقاسم فضاء مغلقا تحاوطه العتمة من كل الجنبات ولا يتسلل إليه النور إلا لماما.
من فرط العتمة، يخيل إليك أن الفضاء قبر وأن ساكنيه أموات ولكن مع استرسال السرد يتجلّى لك موت الموت ذاته فلا معنى له ولا مكان له في مخيّلة الشخصيات التي جعلت منه هامشا لا تطاله أعينهم.
وسط الركح رجل قعيد يتبوأ كرسيا متحرّكا يتبين فيما بعد أن النور لا يتسلل إلى عينيه، وآخر يبدو "خاضعا" له يملأ المكان بخطواته ولكنه لا يقو على الجلوس وفي ركن قصي سلّة مهملات يطل منها رأسين لامرأة ورجل كسيحان يلاحقان قبلة دون جدوى.
مع تواتر المشاهد لن تهتم بأسماء الشخصيات ولا الروابط التي تجمعها بقدر ما تغرق في دوامة من الحيرة على إيقاع رغبة الشخصية القادرة على المشي في الرحيل وهي لا تبارح مكانها.
وانت تجول بين عناصر السينوغرافيا، تقع عيناك على سلة المهملات التي تؤوي عجوزان يقتاتان من ذكرياتهما ويخلقان الضحك على أعتاب الوجع فتتفكّر في الحياة ومراحلها التي يختزلها العرض المسرحي في لحظة تتكرر بتفاصيل مختلفة.
وسلة المهملات ليست إلا ذلك الجانب القبيح من الحياة بما فيه من تهميش ونكران وجحود وإذلال، بل إن كل العناصر السينوغرافية فيها إحالة إلى جوانب من الحياة بما في ذلك السلم الذي تمتطيه الشخصية التي لا يمكنك أن تححد إن كانت "الابن" أو "الخادم".
لولا السلم لما أمكن رصد امتداد العبث في الخارج، ولولا المنظار لما أمكن رصد الموت ولولا الكرسي المتحرّك لما تمكن القعيد من تحديد الاتجاهات والمسافات من حولها، والسلم والمنظار والكرسي المتحرّك في الواقع إشارات لتفاصيل معينة من الحياة كالمسارات والمناصب والتموقعات والانتماءات.
مكان منغلق يشعر المتأمل فيه بالاختناق، لا باب فيه ولكن له نافذتان شاهقتا العلو قد تتخلى معهما على الرعبة في تنفس هواء آخر غير الذي يعبق من زوايا غرفة يكثر فيها الحديث عن الآسن.
وعلى الركح تبدو الشخصيات امتدادا شخصيات أخرى تتقاطع معها في الحياة، في سجنها المختار وفي أوجاعها وفي النقص الذي يتخذ تمظهرات مختلفة وفي جعلها الموت عرضا.
أن تفرغ الموت من معناه وتفرغ الحياة من معناها وتتفه كل العلاقات وتسخر من كل شي وأن تهرب إلى الأمام وتدوس على كل الأسئلة التي من شأنها أن تخرجك من الدوامة التي ألفتها، أفكار تتناثر على الركح وتتسلل إلى عقلك فتربكك ولا تقوى على فتح إحدى النافذتين لتكسر إيقاع سيلها.
غرفة واحدة، وعتمة وشخصيات يتكرر يومها ولكنك لا تشعر بالملل، فكل تكرار يشحن الممثلين بطاقة أخرى تسري في ادائهم وتطبع أصواتهم وحركاتهم وإيماءاتهم وتسري بك إلى عوالم لا زمن فيها ولا موت، هو العبث ولا شيء غير العبث.
وخيوط الضوء التي يحرّكها شوقي مشاقي هي الأخرى تقطع الطريق على الملل والرتابة وتضفي على العرض المسرحي بعدا سورياليا حتى يبدو لك ان الركح في عالم غير عالمنا هذا، وهو المشحون بأفكار عبثية تتجاوز الحيز الزماني والمكاني وتخترق كل الحدود.
التسجيلات والموسيقى المتسللة من الشريط الصوتي أضفت، أيضا، مسحة من المتعة وكانت في مرات كثيرة متنفسا وانعتاقا للحالة الذهنية المغرقة في تساؤلات وجودية عميقة.