“مجنون فرح”.. عن الأدب العربي والحب والرغبة وقصص أخرى

 يسرى الشيخاوي- 

ما إن نصرخ صرخاتنا الاولى في الوجود حتى تنهال علينا أحكام المجتمع وأعرافه وتحاوطنا العادات والتقاليد ويأسرنا  العيب والحرام يفيكبر بداخلنا خوف من الجسد، من الآخر، من الهوية، من التاريخ، من الأسئلة التي جعلنا نتفكّر فينا.

الإطار من حولنا يضيق يوما يعد يوما ونبتعد عنا وعمن حولنا ونغرق في محاولة إرضاء الأغلبية، محاولة بائسة يتناقلها جيل تلو جيل ولا تنتهي إلا بتمرّد أحد الأفراد حينما يلاحق أثر الحرية ويستمع إلى همس روحه التواقة إلى مغادرة الشرنقة التي لا تتفتّق. 

ووسط كل الوصايا التي تتقلب بين التلميح والتصريح، تتوه البوصلة وتتغرب الروح داخل جسدها وتبحث الذات عن نفسها بين لحظات الهروب من الواقع الذي يبدو كسجن ذو أبواب كثيرة. 

 وليس أحلى من الهروب إلى الأدب حيث تربت الكلمات على الذوات التائهة وتواسي الأرواح المتكسّرة وتنسج ملامح فضاء هلامي لا أحكام مطلقة فيه ولا مسلمات، لا شيء غير الخيال وحياة بألوان أخرى.

 وعلى أعتاب الأدب العربي، خلقت المخرجة التونسية ليلى بوزيد تفاصيل فيلمها الروائي "مجنون فرح" وفي هذه العنونة إحالة إلى مجنون ليلى وإلى قصص الحب المطرزة بالوجع والتضحيات.

 أما العنونة الفرنسية فتختزل مسار الفيلم في "قصة حب ورغبة"، قصة تروي المراهقة بأسلوب مختلف وتتفرع منها إلى قضايا أخرى، ولعل المفارقة تكمن في طرح قضايا عربية على أرضية فرنسية. 

 من خلال فئتين من المراهقين، واحدة مغاربية ولدت في الغرب والأخرى مغاربية هاجرت للدراسة في الغربية، الأولى يمثلها أحمد (الممثل سامي عوطالبالي) الجزائري المولود في فرنسا، والثانية تمثلها فرح (الممثلة زبيدة بالحاج عمر) التونسية التي قدمت للدراسة في فرنسا.

 لكل من "أحمد" و"فرح" تجاربه الخاصة وأحلامه ورغباته يلتقيان في جامعة السوربون حيث يدرسان الأدب العربي ويغوصان في تفاصيله التي تغيب عنهما لأسباب كثيرة قطعت مع كل ماهو جمالي بدءا بالأدب العربي.

 ومن فتيل الحب الذي اشتعل في قلبيهما تواترت الصراعات الداخلية واحتدم التوتر بين العقل والقلب والجسد وقفزت تناقضات كثيرة صارت جزءا من ملامح اليومي في المجتمعات العربية.الصدام، وإن كان غير معلن دائما، محرّك الفيلم الذي يطرح التجربة الجنسية الأولى من زاوية اخرى لا مست فيها المخرجة منطقة أخرى لاحقت فيها الكاميرا خجل وعزلة وتردد الفتى على أعتاب جرأة الفتاة.

 من "الروض العاطر في نزهة الخاطر"لأبي عبد الله محمد النفزاوي إلى "ترجمان الأشواق" لابن عربي تتزهج شعلة الحب أكثر فأكثر وتوقظ في الأجساد رغبات كثيرة يختلف إدراكها بين "أحمد" و"فرح"، اختلاف يؤدّي إلى تنافر عند نقطة ما، تلك النقطة التي تتقوقع فيها الذات وتغرق في أسئلة لا حصر لها.

 ومن مشاكل الجسد والروح، وتباين فكرة الحب بسن "أحمد" و"فرح"، إذ يراه وصالا هلاميا يتأذى إذا اقترفا اللقاء الجسدي وتراه ترجمة لفيض من المشاعر التي ماعادت النظرات والكلمات تستوعبها.

 "فرح" القادمة من تونس تحمل داخلها جذوة التحرر من كل قيد تجعلك تتأمل تفاصيل هذه الشخصية المتعففة من عقد كثيرة، يقابلها " أحمد" المولود في فرنسا أسير عادات بالية الأمر الذي جعله يتمزق بين التناقضات التي تسكنه.

 الشاب العربي لا يتقن اللغة العربية، يمارس العادة السرية ولكنه تردّد كثيرا حينما التحم بجسد "فرح"، يسكن في ضواحي باريس ولكنه لا يعرف أي معلم فيها، حياته لا تشبه ليس هو من رسمها، بل إن عهده بالحياة ارتبط بلقائه فرح التي أسرت به إلى عوالم كثيرة تمتد من الجسد إلى الروح.

 ومن الصراعات التي تخلق في كل مرة مشهدية مغرية بالتمعن في تفاصيلها، تخوض المخرجة ليلى بوزيد في قضايا سياسية واجتماعية وهووية دون مباشرتية مربكة دون أن تغفل أية تفصيل في اختيار شخصياتها خاصة فيما يتعلق بأصولها. 

 ورغم أن الفيلم ناطق باللغة الفرنسية إلا أنها حرصت على أن تؤدّي شخصية "فرح" ممثلة تونسية وان يؤدّي شخصية" أحمد ممثل من أصول مغربية، وكذلك تم اختيار شخصيتي والد أحمد ووالدته، الأمر الذي أضفة الكثير من الصدق والواقعية على الأحداث.

 وفي كل تفاصيله، يبدو فيلم "مجنون فرح" موشّحا بالجمالية التي يستمدّها من الأدب العربي ومفردات الحب، جمالية انعكست على السيناريو الذي اهتم بحالات الحب وبالانفعالات وخاض في الصراعات الداخلية وامتد من القلوب إلى الأجساد وحضر فيه صوت غالية بن علي مرددا قصيدة لابن العربي. 

 الجمالية أيضا، تتراءى في أداء الممثلين الذي اتسم بالانسيابية والمرونة والتناغم حتى أن الناظر إليهم ينسى وجود الكاميرا وهنا يتجلّى دور المخرجة في إدارة الممثلين وفي اختيارها الأداء البسيط الذي يحيل إلى ان المشاهد واقعية.

 هو الأدب العربي وسحره يلقي بضلاله على الفيلم منذ فاتحته إلى خاتمته، الأدب العربي سراط لكسر الجليد بين "أحمد" ووالده وسراط لمصالحته مع ذاته ومع محيطه وسراط للنشوة واللذة. 

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.