“مجالس الطرب”: عن جمالية اللحن والكلمة وعمق الانتشاء

 يسرى الشيخاوي-

 
جاء في لسان العرب لابن منظور أنّ " الطرب هو الفرح و الحزن .. وهو خفةٌ تعتري عند شدّة الفرح أو الحزن وهو حلول الفرح وذهاب الحزن.. وطرب الواله أي اختلّ عقله .. والتطريب في الصوت مدُّهُ وتحسينه وطرّب قراءته مدّد ورّجع وطرب الطائر في صوته".
 
وبتفحّص معاني الطرب يتبيّن أنّه يجمع الفرح والشجن والوله وما بينهما من انتشاء، لذلك فإنّ حفل الفنان المغربي رشيد غلام والفنانة التونسية آية دغنوج في تظاهرة " مجالس الطرب" الذي تنظّمه الفرقة الوطنية للموسيقى بقيادة المايسترو محمّد لسود سيكون فضاء للنشوة المتولّدة عن الفرح والشجن العذب.
 
بوح الناي 
 
هل عجزت يوما عن البوح بألم الفراق، هل علقت التعابير داخلك وأبت حنجرتك أن تحررها، هل دفنت العبارات في مقلتيك حتّى تحلّلت وصارت عبرات، هل خانك صوتك ووقت صامتا أمام سيل الذكريات، كلّ ما عجزت عنه حكاه ناي مكرم بشّة في وصلة " سماعي أمل" من تلحينه.
 
عزف منفرد للناي، ألم الاشتياق والتوق إلى الوصال لوعة الهجر واوسطوة الذكريات، ويعود الزمن الجميل على شكل ألحان تتعرّى فيها أمام نفسك وتخاطب انسانيتك التي ردمها انشغالك بواقع اختلطت فيه كل الأوراق.
 
أنين البائسين وحنين المغتربين وأمل الحالمين وعشق المجانين، حملتها ألحان الناي إلى ركح مشرح قاعة الأوبرا بمدينة الثقافة، ألحان تقطع ذلك الرابط الذي يشدّك إلى الواقع وتأسرك في تفاصيل حلوة رغم ما تحمله من شجن.
 
دفء الصوت
 
وأنين الناي لم ينبعث لوحده مطوّلا، فقد عاضدته بقية الآلات الموسيقية مؤذنة باعتلاء الفنانة التونسية آية دغنوج للركح، هي ابنة المدرسة الرشيدية جمعت بين رقة المظهر وقوة الصوت وتفرّد خامته، وكانت محلّ إشادة من كبار الفنانين.
 
آية دغنوج ، غنّت للحب وما يرافقه من أحلام وحيرة، غنّت "حلم" لأم كلثوم و"حيرانة ليه" لليلى مراد، فحاكت نبرة صوتها ذلك الدفء الذي يحمله الحب بين تفاصيله، كانت الترنيمات تنبعث من حنجرتها شامخة صامدة كجبال الكاف، تتمايل على وقعها رؤوس الجمهور ولا تهتز. 
 
"قررت أن أفقد القدرة على الكلام وأن أعيش في الموسيقى"، مقولة لـجان بول سارتر، جسّدها جمهور قاعة الأوبرا الذي خيّم في صفوفه السكون والصمت وهو يستمع إلى صوت آية دغنوج، كانوا منسجمين مع رصانة أدائها وقدرتها على تطويع الجمل الموسيقي.
 
وبعد كل أغنية تعج القاعة بتصفيق الجمهور الذي انقطع عن الكلام في حضرة صوتها، يصفق الحضور بحرارة المتعطّش لسماع صوت عذب يؤدي أغنية تجمع بين جمالية الكلمة واللحن بعيدا عن الرداءة التي تنخر المشهد الثقافي في تونس.


سحر الكمنجة
 
وبعد أن خفت دوي التصفيق عانق العازف حمزة أبّا كمنجته وأسند عليها رأسها كأنه يبث إليها أسرار الأيام وذكرياتها، في عزف منفرد لموسيقى أغنية "أيام" لوردة الجزائرية، عزف يخلف حالة من النشوة الممزوجة بالخشوع.
 
"ايام بنعدها ولو فينا نردها ..كنا ردينا اوقات.. صارت هلأ زكريات.. لكن يا خسارة الحياة تمرق ما فينا نردها"، والأيام صارت نوتات اختلط فيها الحلو بالمر، والخيانة بالوفاء، والندم بالرضا، نوتات خلفتها أنامل العازف وهو يداعب أوتار رفيقته.
 
وهو يروي حكايات الأيام يتماهى مع كمنجته ولا يقطع تصفيق الجمهور انسجامهما،  وتنساب الألحان حادة حينا ورقيقة أحيانا، هي ليست مجرّد أصوات تصدر عن آلة موسيقية هي مناجة حبيب لحبيبته، هي شكواه من الأيام وأعبائها وذكرياتها.
 
ولأن الأيام جمع، رافق بقية عازفي الفرقة الوطنية للموسيقى حمزة أبّا في العزف ومن ثم انضم بقية العازفين ليروي كل عازف قصّته مع الأيام على طريقته.
 
رونق الأداء 
 
وبعد أن ترجمت الآلات الموسيقية قصص الأيام إلى نوتات تفاعل معها الجمهور، اعتلى الفنان المغربي رشيد غلام الركح ليقدّ قصيدة إليك "مددت كفي"، "إليك مددت الكف فى كل شدة..ومنك وجدت اللطف من كل جانب..وانت ملاذي والانام بمعزل..فهل مستحيل فى الرجاء كواجب"، انسابت الكلمات من حلقه عذبة سلسلة لا حجاب بينها وبين الأذن.
 
ورشيد غلام، الذي باح بأنّه يطرب إذ يشنف أسماع الجمهور التونسي بالغناء، هو مطرب مغربي يؤدّي الأغاني الروحية  وكلاسيكيات الطرب العربي، جعلته خامته الصوتية الاستثنائية متميزا متفردا في مصاف الفنانين.
 
والفنّان، ذو الصوت الحر  والقادر على تطويع الجمل الموسيقية بشكل يجعلك تخال أنها ترنيمات ملائكية لا صوتا منبعثنا من حنجرة إنسان، غنّى " مضناك" لمحمّد عبد الوهاب  و"الأطلال" لأم كلثوم، بأداء رونقه منقطع النظير، رونق ترجمه تفاعل الجمهور.
 
عمق الانتشاء 
 
ومفاجأة السهرة التي لم يتم الإعلان عنها في برنامج الحفل كانت أداء ثنائيا لأغنية "الرضا والنور" لأم كلثوم، فكانت آية دغنوج مشعّة كالنور وكان رشيد غلاما مبهرا كالرضا، كانا منسجمين وسكب كل منهما من روحه في الأغنية فسرى الانتشاء فيهما قبل أن يسري في الجمهور، الذي ملأ تصفيقه الأثير.
 
وفي مجالس الطرب، اتّحدت الكلمة باللحن، حتى بلغ السامعون عمق الانتشاء على وقع المقامات وما تتضمنه من معنى وحس تجاوب معه الجمهور تارة بالتصفيق وطورا بترديد "الآه"، فكان العرض فضاء للتفاعل الوجداني بين الفنانين والعازفين من ناحية والجمهور من ناحية أخرى. 

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.