ليبيا/ “ثامن أيام الأسبوع” أو مسرحة الطريق إلى الفناء

يسرى الشيخاوي-

هل تخيّلت يوما أنّك تفاوض دفّانا من أجل ان تبقى خارج قبرك؟ هل تخيّلت يوما أنّك تخطو نحو قبرك بكامل إرادتك لأنك حيثما وليت وجدت جه الموت؟ هل تخيّلت أن تغمa عينيك وتسافر بلا رجعة وأنت عطشان؟ هل تخيلت ان تكون أقصى أمانيك شربة ماء تطلبها ولا من مجيب غير أنفاس الفناء؟ قد يبدو الأمر سرياليا ولكن مسرحية " ثامن أيام الأسبوع" جسّدت كل هذه التخيلات على الركح.

والمسرحية التي تصوّر جدلية الحياة والموت من إنتاج المسرح الوطني ببنغازي ونص لعلي عبد النبي وإخراج علي الأشلم وتمثيل ومحمد لامين ومروان العبار ومشاركة كل من محمد الفرجاني ومحمود كاموكا وديكور عمر قوية.

ولا تخلو المسرحية من أبعاد رمزية تنطلق من العنوان " ثامن أيام الأسبوع"، وكأن كاتب النص يضيف يوما آخر للأسبوع يوما لا وجود له في الواقع ولكنه يرتسم في خيال أولائك الذين يعلمون انّ نهايتهم قريبة ولكنهم ينشدون سويعات أخرى في الحياة الدنيا.

"ثامن أيام الأسبوع" هو اليوم الذي يبلغ فيه الصراع ذروته بين الحياة والموت، بين تلك الرغبة في البقاء على البسيطة وبين رغبة "عزرائيل" في استلال أرواح المزيد من الآدميين، بين خيال مليء بالحب والامل وواقع يسكنه الكره واليأس، وربّما هو أيضا اليوم الذي يعرّي فيه الإنسان حقيقة الحياة والقسوة التي تسكن تفاصيلها.

بخلاف العنوان المشحون بالدلالات والرموز، والذي يهيئك منذ البداية لحكاية مارقة عن السائد والمألوف وعن الواقعية أيضا، تبدو الحكاية أيضا سريالية ولكنّها امتداد للواقع الذي تعيشه ليبيا وبلدان أخرى من حرب ودماء.

فالحرب، تقطّع أوصال الحب وتسكن بين الحاء والباء وتغمر بسوداويتها كل منافذ الأمل وتصنع من الرياض مقابر وتكتب على جبين الحياة "أنا الموت"، صوت الصواعق والرصاص وأنين الجرحى أنفاس الموتى المتشبثة بالدمار والعويل والبكاء المتواصل تفاصيل تجعلك تسير نحو قبرك بنفسك دون، تقاوم في البداية الرغبة في النوم وحديا في ذلك المكان المظلم ولكنّ منظر الدماء يجعلك تستسلم.

زمن الحرب يتلبّس الأمل باليأس والحزن بالفرح والحياة بالموت وينتفي الفرق بين الأحياء والأموات، ويبحث أحياء على قيد عن منافذ فلا تقع أعينهم إلا على القبور، تماما مثلما حدث في مسرحية " ثامن أيام الأسبوع" إذ يزور رجل مقبرة وهو حي ولكنه لا يخرج منها بل ينتهي به الأمر إلى قبر على مقاسه.

فالمسرحية تروي صراعا وجوديا بين شخصيتين لا jسكتان عن الكلام وكل منهما يدافع عن وجهة نظره وبين الحياة والموت تتأرجح الإنسانية، ويتشبث الوافد على المقبرة بالحياة ويرفع ساكن المقبرة أو الدفان لواء الموت.

وبين تشبث الزائر بالحياة ورفضه الموت واستماتته في الدفاع عن حقّه في الحياة خارج المقبرة، وإصرار الدفان على أنّ وقت الرحيل قد حان يتماهى الوهم مع الحقيقة إذ لا يوجد إنسان يرقد تحت التراب وينظر إلى ذراته وهي تملأ عينيه ولكن يوجد دفان يلقي التراب على الأجساد الميتة.

"انا حي، وساظل حيا، وساصرخ بانني حي، حي ارزق"، كلمات يردّدها الزائر في ذروة الصراع بينه وبين يد الموت، وفي الضفة الأخرى يسخر منه الدفان ويعيد نطق كلماته بطريقة ساخرة، هي بعض من الكوميديا الساخرة التي وسمت المسرحية رغم الوجع الذي يرشح من المشاهد.

ليس من السهل أبدا أن يقطع أحدهما إصبعك من أجل خاتم، الأمر موجع ومؤلم ولكنه انعكاس لواقع صارت فيه المادة أهم من الإنسان ومن أحاسيسه، هي أنانية الدفان الذي سلب الزائر خاتمه واصبعه لأنه كان يبحث عن شيء ثمين يقايض به حياته، هي لعبة بائسة يستنزف فيها الدفان ما تبقى من رغبة الزائر في الحياة.

ومن الصعب جدّا، أن ترتدي كفنك بنفسك وأن ترى دماءك السائلة من إصبعك المقطوعة تخضّبه، صعب جدّا إلى درجة أنّك ترقد في سلام في ذلك القبر الذي كنت تهرب منه وتقاوم إلحاح الدفان على رميك فيه، هو تعب الحياة الذي لا طاقة لك به يحمل نحو الفناء ولكنّه لا يخمد فيك صوت الحياة.

الدفان في المسرحية ليس إلا استعارة من الواقع وهو كل دكتاتور وكل نظام يكمم الأفواه ويقتل الآمال والطموحات وينثر السواد في دروب الحياة، وليست نهاية المسرحية بمشهد مأسوي سوى امتداد لما يحصل في ليبيا وسوريا واليمن والعراق ولبنان وفلسطين ودول أخرى صارت تسيل فيها الدماء كسيلان الماء بعد المطر.

والشخصيات ليست مجرّد شخوص فحسب وإنما هي أفكار وتصورات تتصارع فيما بينها كما يحصل في الواقع تماما فالكل يحاول أن يرجح الكفة لصالحه وإن كان قتل الآخرين ماديا أو معنويا سلاحه.

صراع البقاء والفناء الذي يخوضه الإنسان بسبب أنانية أخيه الإنسان في أماكن كثيرة من هذا العالم، يعكسه الحوار بين عاشق الحياة وعاشق الموت الذي انتصر في النهاية ومن خلال انتصاره يصدم مرخج "ثامن أيام الأسبوع" المتفرّج ويدعوه إلى التفكّر في هذا الواقع الذي صارابنا للموت وباتت فيه الحياة بلا لون.

شدّ وجذب بين الحياة والموت صوّرها الممثلون على الركح بأداء صادق ومقنع لا غبار عليه سوى إعراب بعض كلمات النص، أداء تماهى مع الموسيقى الجنائزية ومع السينوغرافيا التي تحملك إلى عالم الموت حيث تتناثر القبور ويتعالة نباح الكلام المتعطّشة للأشلاء، لتكون "ثامن أيام الأسبوع" مسرحة لطريق الفناء الذي يلفه السود، سواد رافق عرض المسرحية طيلة ساعة كاملة.

 

 

 

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.