لمّا تتهادى “رغبات” سمير الحرباوي على نسق أمل يذهب ويأتي

يسرى الشيخاوي-
"بي أمل ويأتي ولكنني لن أودّعه"، كلمات لمحمود درويش يخطّها "لسعد" بطل فيلم " رغبات" للمخرج سمير الحرباوي في النهاية، فتسافر بك حروفها في تفاصيل منسية من حياتك وتنهمر الضحكات والعبرات على إيقاع الذكريات.
وبين الذكريات الحلوة منها والمرة وفي فوضى الحماقات والخيبات تلاحق خيوط أمل تشظّى ولكنه لم يتلاش، أمل يستمدّ شرعيته من تلك الابتسامة العالقة في أعماقك لا تجد طريقها إلى الخارج ولكنها تقاوم النسيان.
وعلى إيقاع الموسيقى الكلاسيكية التي تداعب أوتار القلب، يرسم الفيلم طريقا إليك، إلى رغباتك، إلى أحلامك المعلّقة بين الحقيقة والخيال، إلى أجوبة عن أسئلة وجودية تتناسل كل يوم.
وعيناك تلاحق التفاصيل لا تنفك الاسئلة تحاصرك عن الجدوى من المقاومة والواقع لا يتغير من حولك، والجدوى السير في طريق لن تجني منه سوى التعب والوجع، والجدوى من بذر الحب والحياة في مكان تعبق منه رائحة الموت.
رغبات بسيطة جدّا تغازلك من بعيد ولكنّك لا تقوى على ردّ الغزل، رغبة في ان تكون أنت كما أنت دون مساحيق تجميل، رغبة في ان تدخّن سيجارة لم تنكسر رقبتها وأنت تدسّها في جيبك، رغبة في أن تعمل وأخرى في أن تحب واخرى في أن تبتسم دون أن يتربص بك الحزن في الزوايا.
رغبات تتجلّى تباعا في الفيلم يحاول "لسعد" ان يعانق بها الحياة التي ملأت داخله وكانت سببا في ثباته رغم الضربات الكثيرة التي انهالت عليه، سيل من الامل والحلم يذرفه على شرف الحياة ولكن السيل يتفرق في ثنايا كثيرة.
وإذ هو تفرّق بات عاجزا عن الوقوف في وجه الواقع الذي أبى إلا أن يعبس، وهاهو يقف على شفا الخذلان ويفتح ذراعيه ليحضن خيباته تباعا فلا أفلح في العثور على عمل ولاعانق حبيبته ولا تحرر من من سطوة أحاسيسه المتناقضة. 
"بلادي وإن جارت علي عزيزة" تقفز إليك المقولة من بين الصور الشاعرية التي رسمتها كاميرا سمير الحرباوي بكل حب لتبدو العاصمة فاتنة جدّا، وهو في ذلك ينشئ مفارقة بين الوطن الجميل الذي يؤوينا وبين أولائك المسؤولين الذي ينثرون فيه القبح إذ امعنوا في قتل الأحلام.
إلى جانب الموسيقى التي تظفي مسحة رومنسية، يتلاعب المخرج بالضوء ليوشّح صوره بجمالية عميقة تأسرك في تقلّبات درجات الضوء على نسق أنفاس "لسعد" الذي لا يودّع الأمل وإن تسرّب إليه اليأس من كل المنافذ.
شارع الحبيب بورقيبة باسفلته المحمّل بحكايا العشق وغضب والثورة، والمقاهي المتناثرة على جنباته وحانة "لونيفار" بزخمها وأحاديثها وصخبها الهادئ، ودار الثقافة بن خلدون بكل ما تحمله من فنون وأسرار وبائع الورد وقصص المحبين المتناثرة على البتلات، تفاصيل ولدت عالما استيتقيا شاعريا يصور تونس الحالمة المشرقة.
ولكن نظرات "لسعد" تقطع عليك الطريق وتذكّرك ان وراء كل تلك الجمالية أوجاع كثية وأرواح تنشد الانعتاق من الخيبات ولا تقوى على ذلك لأسباب كثيرة، وراء كل ذلك الجمال دموع وآهات وذوات متعبة تبحث عن ميناء سلام.
تناقضات كثيرة توشّح الفيلم وتتراقص على نسقها الثنائيات، ويتصارع البقاء والفناء والأمل واليأس والحب والخذلان والصمود والاستسلام والالأنا والآخر والوجود والعدم والصحوة والمنام.
وفي الفيلم المقتبس عن رواية " رغبات" للكاتب لسعد بلحسين نفقه معاني أن تحب وطنك وأن تقاوم كل الظروف من حولك، وأن تقاتل من أجل الحياة وإن لم تمنحك الفرصة لتحياها كما تريد، وأن تتشبث بالأمل وإن كان بعيدا جدّا، وأن تكون فنانا وإنسانا في تعاملك مع ذاتك ومع الآخرين.

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.