“كوكات”.. خلق فنّي مزاجه من جبس

 يسرى الشيخاوي-

من السهل أن تخضع لليأس وتسلم روحك لتفاصيله السوداوية ولكن ليس من الهين أن تمسك بتلابيب الأمل وسط العتمة وأن تنسج من خيوطه أحلاما تتكاثر على قارعة المقاومة والإصرار.

من السهل أن تنساق وراء الواقع بثناياه الرتيبة والمملة ولكن من الصعب أن تخلق لنفسك طريقا تشبهك وتشبه روحك بوصلتها رغباتك وأحلامك، طريقا موشّحة بالثورة على السائد والنمطي.

ولأن التجارب الصعبة مغرية أكثر من تلك التي يلفّها اليسر، فإنّ الفنانة زكية الحديجي تهوى الانغماس فيها بل إنها لا تكاد تغادر شرنقة تجربة صعبة حتّى تدخل في اخرى لينتهي الامر في كل مرة عند خلق فني قدّ من محبّة وشغف.

قصص كثيرة روتها الحديجي بالجبس، قصص عن العشق والأمل والحلم وعن الحياة في امتدادها بين السواد والبياض، ومن المنحوتات التي سكبت فيها روحها إلى الحلي الذي طرّزته بابتسامتها تخطّ فصولا في مسيرتها مع هذه المادة.

فعلاقتها بالجبس تمتد إلى سنوات الطفولة، ويمر العقد تلو العقد ويرسخ حبها لهذه المادة وتأنس يديها ملامسته كلما أعيتها خيبة أو تسلل خيط من اليأس إلى يومها، وإن كانت فيما مضى تشكّل لعبها من الجبس فهي اليوم تشكّل منه أحلامها وهواجسها المثيرة.

وبعد معرض "حديث الضوء" الذي تعانقت فيه منحوتاتها مع صور الفنان كريم كمّون التي تحاكي الانسانية والحرية وكلمات الفنانة ريم الرقيق التي تقطر حسّا وأحاسيس، يرى معرض " كوكات" النور في فضاء "مونار".

 في الفضاء الثقافي مونار، زينت الخواتم والعقود رواقا يتوسط أشجارا ازدادت خضرة بحضور الجبس صديق الطبيعة، ولعل هذه من بين الأسباب الكثيرة التي اصطفته من اجلها زكية الحديجي رفيق مسيرة فنية مغايرة للموجود.

وإن ركن العديد من الحرفيين إلى مواد كثيرة على غرار البلاستيك والبلور والفضة والذهب والنحاس والأقمشة وغيرها في صناعة الحلي، فإنها الأولى التي لجأت إلى الجبس سكنا لأفكارها.

الجبس يمتص الماء ويحمل في بياضه الكثير من النقاء ويجبر العظام إن انكسرت، الجبس يشببها هي التي تمتص الوجع من حولها وتحوّله إلى طاقة إيجابية تبثّها من حولها وتزينها بألوان الحياة.

الخمسة والحوتة والعين الزرقاء، تفاصيل من التراث التونسية حاضرة في معرض "كوكات" لكنها تبدو مختلفة جدّا وهي تسكن وسط الجبس الأبيض حينا والملوّن أحيانا، فيها بعض من روحها الضاربة في الماضي والمتطلعة دوما إلى المستقبل.

توليفات جميلة اوجدتها أنامل زكية الحديجي تماهى فيها الجبس مع المعادن ومع الخيوط ونحتت عليه أشكالا مختلفة كستها بألوان كثيرة تأسر ينساب الضوء من تفاصيلها ليطمس خيوط العتمة.

قطع فنيّة عميقة في أفكارها، تصميمها مضن ولكنها أيضا بسيطة جدّا جماليا بلا تعقيدات تنفّر منها المتأمل فيها، ولعل "الأشياء البسيطة هي أكثر الأشياء تميزاً ولكن ليست كل عين ترى".

*الصورة من صفحة "كوكات"

 

 

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.