“قربان” نجيب بلقاضي.. دراما سيكولوجية مطرزة بتفاصيل الحجر الصحّي

 يسرى الشيخاوي- جدّة/ السعودية


من رحم الجائحة، ومن تفاصيل الحجر الصحي، والوقع النفسي للإغلاق الذي طال كل شيء عقب تفشي فيروس كورونا وتغلغله في اليومي، نسج المخرج نجيب بلقاضي أحداث فيلمه الروائي الطويل "قربان". 
 
وهذا الفيلم يراود ذاكرتك ويدغدغ خاناتها التي اختزنت مواقف كثيرة فرضتها المتغيرات الصحية التي طرأت دون إيذان، ويقحمك في تجربة نفسية مربكة، وفكرة هذا العمل السينمائي الذي يروي الجائحة على طريقته بزغت ساعة الحجر الصحي والتأمت ملامحها وأدرّت السيناريو الذي جاء محبوكا ومنسابا ومشحونا بالمشاعر.
 
في الفترة ذاتها، انطلق تصوير الفيلم الذي تجري كل أحداثه تقريبا في منزل نجيب بلقاضي، مشاهد أغلبها داخلية تعمق تلقّيك للحالات النفسية للشخصيات، وعلى إيقاع حياة الزوجين "قيس" و"سارة" أثناء الحجر، يثير الفيلم أكثر من قضية  منها الصحة النفسية ووقع الحجر في الدواخل والرفق بالحيوان وحماية البيئة ووضع اللاجئين  والعنف الزوجي ونقص الأدوية والبطالة القصرية.
 
تفاصيل كثيرة اقتبسها نجيب بلقاضي من اليومي في فترة كورونا، ورسم منها ملامح دراما سيكولوجية تراقصك على إيقاع أبعاد اقتصادية واجتماعية واقتصادية وصحية وبيئية.
 
وفيما تعمل "سارة (سهير بن عمارة) عن بعد وتحاول أن تجد حلولا لفئات أرهقتها الجائحة وعمقتها مشاكلها، يصارع "قيس" (نجيب بلقاضي) حالة الذهان، على إيقاع أخبار الفيروس.
 
على إيقاع أحداث لا تحتكم إلى نسق خطي وتراوح بين الواقعي الفعلي والمتخيل الكامن في ذهن "قيس"، تجول الكاميرا في تفاصيل مختلفة من المنزل وتحول دونك والملل. 
 
وأسلوب التصوير في الفيلم يجعلك تتأرجح بين عالمين، أحدهما رحب ممتد لا يعترف بالجدران والآخر ضيق تعانق فيه الجدران بعضها البعض، أسلوب يتناغم مع الحالة النفسية لـ"قيس".
 
أما المؤثرات الصوتية، على قلّتها، فإنها تغوص بك في حرب نفسية وتستحضر معها تلقّيك لتفشي كورونا في تونس، وأنباء الحجر الصحي، والهوس بالكمامة والمعقم وتعمق إحساس الخوف كلما أصيب شخص مقرب بهذا الفيروس.
 
وطيلة الفيلم، تتغير زوايا التصوير وتتبدّل القضايا وتتقلب الشخصيات بين الانفعالات والحالات النفسية والذهنية، إلا الإحالات إلى كورونا تظل صامدة لا تتلاشى، ومع تدفق المشاهد التي جاءت بالأبيض والأسود، يسري فيك توتر "قيس" ويسري بك في عوالم سيكولوجية ارتسمت ملامحها بوضوح في الفيلم الذي اعتنى بالتفاصيل جيّدا.
 
وفي أسلوبه الإخراجي يستنطق نجيب بلقاضي الصمت، ويترجم نظرات القط "باقيرا"، ويحوّل كل الجماد إلى شخصيات مستقلة بذاتها ويصنع من التحام الضوء والعتمة حدثا يتأجج على أعتابه الصراع النفسي.
 
وعلى نسق الأيام المتشابهة بشكل يفتح الطريق أمام الروتين والرتابة، تتحرك الكاميرا في اتجهات مختلفة وتلامس جوانب قد تبدو للبعض غير ذات جدوى ولكنها محرار إنسانية، جوانب موغلة في العاطفة لم تأخذ حيزا كبيرا من التصوير ولكنها لم تمر مرور الكرام.
 
واللافت في الفيلم، أن المخرج وكاتب السيناريو نجيب بلقاضي يجيد التنقل بسلاسة بين المواضيع الكثيرة التي عايشها التونسيون خلال الحجر الصحي، حتى أنك تستشعر لوهلة أن المشاهد مقتطفة من ذاكرتك.
 
وفي بعض المشاهد التي تطرأ دون إيذان لتورطك في الصراع النفسي لـ"قيس"، يتبدّى لك المغزى من عنوان الفيلم "قربان"، الكلمة التي تحيل إلى أن لكل شيء مقابلا وألا شيء يأتي صدفة.
 
ظرفية ولادة الفيلم، تشكل ملامحه زمن الحجر الصحي، تصويره بأقل فريق ومعدات، اختزال الشخصيات، واستبطان كل تلك المشاعر المتولدة عن الجائحة، عناصر وشحت الفيلم بكثير من الصدق عمقته البساطة التي طالت كل شيء فيه.
 
البساطة في "قربان" تأتي رديفة للعمق الذي يخاطب في الإنسان إنسانيته ويفتح عينيه على تفاصيل من يومه قد يمر عليها دون أن يلقي لها بالا، تفاصيل قد تفضي به إلى أن يكون قربانا.
 
وفي العرض الثاني للفيلم في مهرجان البحر الاحمر السينمائي الدولي حيث يشارك في المسابقة الرسمية للأفلام الروائية الطويلة، صدحت اللهجة التونسية في قاعة العرض واستدرت تفاعلات مشاهدين سعوديين وشرّعت باب النقاش بخصوص أسلوب التصوير.
 
وبعيدا عن الإخراج الذي ولّد فيه فضاءات كثيرة داخل فضاء واحد، والسيناريو الذي كتبه بطريقة مكثفة ومحبوكة، نجح نجيب بلقاضي كممثل في تقمص شخصية  "قيس" بكل تفاصيلها.
 
والمتامل في أدائه، سيلاحظ تمكنه من مفاصل الشخصية عبر حركاته وسكناته وسيل الكلام والصمت المباغت والإيماءات والانفعالات، وعبر تقلبه بين حالات متناقضة دون ان يقطع عليك حالة الانغماس مع الشخصية.
 
وليس من السهل على الممثل أن يجاري البناء السيكودرامي للشخصية إذ لا يتعلق الأمر بما يبديه الجسد من خطاب ولا بالتفاعل الخارجي، بل بما تحمله الشخصية في داخلها وتعكسه عبر قنوات مختلفة كما فعل بالقاضي.
 
وما يحسب لصاحب فيلم "قربان" اختياره للممثلة سهير بن عمارة لتشاركه هذه الرحلة التي تلتبس فيها المشاعر وتختلط على إيقاع تناغم واتساق بين الممثلين اللذين سخّرا جسديهما وروحيهما ليشحنا الشخصيات بمشاعر مشحونة بالصدق.
 
وفي دور "سارة" برهنت سهير بن عمارة مرة اخرى انها ممثلة لا تكرر نفسها وأنها تبعث حيوات مختلفة في شخصياتها وتتقلب بين تفاصيل الشخصية بصدق وعمق وسلاسة.
 
دون مبالغة في الأداء، انتقلت من حالة إلى أخرى واستبطنت معاناة المقربين ممن يعانون أمراضا نفسية، ليكون حضورها طاغيا وسط مراوحة بين تعبيرات مختلفة تترجمها نظراتها في كل مرة.
 

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.