فيلم في “عينيّ”: حينما يصرخ المتوحّد في وجه المجتمع “لا أبصر ما تبصرون.. لكم رؤياكم ولي رؤياي”

يسرى الشيخاوي-
 
السينما ليست مجالا إبداعيا منفصلا عن المجتمع، هي مرآة تنعكس فيها صورة المجتمع بقبحها وجمالها، هي جملة التمثلات التي ينشئها المخرج مع العالم الخارجي برؤية فنّية، هي فنّ ذو بعد جمالي خاص يتمثّل في تعرية البنى الاجتماعية ونقل الوقائع الإنسانية من خلال حبكة سينمائية تشدّ المتفرّج إلى كل تفاصيلها، فلا يزوغ بصره ولو طرفة عين، مثلما هو الحال في فيلم "في عينيّ" للمخرج نجيب بلقاضي.
 
رؤية سينمائية للتوحّد 
 
في "عينيّ" الفيلم الجديد لنجيب بلقاضي، رؤية سينمائية لحياة الأطفال الذين يعانون التوحّد وسط مجتمع يكفر بالاختلاف، مجتمع يتعامل مع المتوحّدين كمختلّين عقليا أو مصابين بمس شيطاني،
 
ولأن السواد الأعظم من المجتمع يريد للجميع أن يكونوا على شاكلة قوالب السكّر، متشابهون حدّ التماهي، فإنّه من الصعب القبول بالآخر المختلف عنا، لذلك لا يجيد الكثير منا التعامل مع المتوحّدين ونحن لا نعامل المتوحّدين وفق رغباتهم وأهوائهم لأنّنا لم نحاول أن نفهمهم أصلا، كلّ ما نريده هو تمثّل أنفسنا فيهم، نريد أن ننقل لهم رؤيتنا للحياة، نريدهم شبها لنا.
 
و"في عينيّ"، يمثّل الرهان في تعرية التعامل إنسانيا مع مرضى التوحّد، كيف تعامل العائلة الطفل الذي يعاني توحّدا، تلك المراوحة بين السلاسة في التعامل والتعجرف، الهدوء والعصبية، كيفية التعامل مع التقلبات المزاجية والنوبات العصبية التي تنتابه دون إذن.
 
 
للتعامل مع المتوحّدين وجوه كثيرة 
 
ولأنّ التعامل مع ظاهرة التوحّد يختلف من شخص إلى آخر فإنّ المخرج حاول أن يوظّف كلّ هذه الوجوه في الفيلم، وتؤدّي الممثّلة سوسن معالج دور خديجة خالة الطفل يوسف المتوحّد والذي يؤدّي دوره إدريس الخروبي، فيما يلعب الممثّل نضال السعدي دور لطفي والد يوسف، والممثل عزيز الجبالي سليم عم يوسف، والممثلة منى نور الدين جدّة يوسف من أبيه.
 
"خديجة" خالة يوسف اقتنعت بأن يوسف يعاني حالة من التوحّد لكنّها لم تستسلم وتشبّثت في حقّه في أن يتلقى العناية في مركز خاص، أما والده لطفي فلم يتقبّل اختلاف ابنه وتمسّك برغبته في أن يشبهه، أمّا جدّته فلم تتوان عن نعته بالمخبول وكثير الحركة فيما عامله عمّه على أنّه حالة خاصة مع التذمّر من سلوكيّاته أحيانا، وأمّا الخادمة التي اهتمت بيوسف فتنتمي إلى الطائفة التي تعتبر التوحّد مسّا شيطانيا إذ لم تتردّد في ان تحضر له تميمة يتسلّح بها في مواجهة نظرة المجتمع للتوحّد والأطفال جيران "يوسف" الذين لم يعوا بعد معنى الاختلاف فهم أيضا انخرطوا في حملة نبذه ووصفه بالمخبول.
 
لا تترك قطعة منك في الماضي وتهرب 
 
الماضي لا ينتهي عند الزمن المنقضي بل يلازمنا في الحاضر ويمتدّ معنا إلى المستقبل في بعض التفاصيل والذكريات، ما بالك حينما نهرب منه ونترك فيه عائلة، زوجة وابنا يعاني التوحّد.
 
"لطفي" أربعيني يقيم في مارسيليا، حاد الطباع سريع التوتّر، كان يعيش حياة روتينية بين العمل في محلّ المعدّات الكهرمنزلية خاصته وقضاء الوقت مع صديقته "صوفي" التي تنتظر مولودهما، إلى أنّ بلّغه شقيقه "سليم" نبأ تعرّض زوجته "سارة" إلى سكتة دماغية وتكفّل أختها "خديجة" برعاية "يوسف" ابنه ذي التسع سنوات.
 
اتصال هاتفي كان كفيلا بأن يعيد الماضي بكل ثقله إلى حياة "لطفي" الذي هرب منه منذ سبع سنوات، تنصّل من مسؤوليّته المعنوية كأب وزوج مع استمراره في إرسال الأموال لهما، ولكن هل تعوّض الأموال الفقد والحرمان؟
 
وأمام إلحاح والدته على استرجاع "يوسف" من خالته "خديجة"، اضطر "لطفي" إلى العودة إلى تونس، دون أن يخبر صديقته "صوفي" عن السبب الحقيقي وهو الذي كتم عنها ماضيه.
 
حينما يصرخ المتوحّد "لا أبصر ما تبصرون" 
 
حمله عنوة من بيت خالته "خديجة" بعد ان كسر الباب واقتحمه وسط نوبة من البكاء، كان هذا اللقاء الأوّل بين "يوسف" ووالده بعد غياب سبع سنوات، لم يكن الامر سهلا على الأب وابنه على حدّ سواء، "يوسف" لا يجيد الحديث، و"لطفي" عاجز عن التواصل معه، لا رابط بين الأب وابنه، كلّ سبل التواصل منقطعة، والأب لا يكبح جماح توتّره أمام عدم قدرة ابنه على التجاوب معه.
 
يستقر "لطفي" مع "يوسف" في منزله الذي غادره منذ سبع سنوات والتي كانت تسكنه سارة قبل إصابتها بسكتة دماغية، وينطلق في النبش عن غريزة الأبوّة الكامنة داخله، وخلق رابط بينه وبين يوسف الذي يرفض النظر في عينيه.
 
وفي غرفة "يوسف" ألعاب على شاكلة حيوانات، اقتلع عيونها، وحتى المهرّج الذي أحضره له والده من "مارسيليا" اقتلع عينيه، "يوسف"، لا يريد النظر في عين أحد آخر، صراخ يوسف يتردّد من تجاويف العيون التي اقتلعها "لا أبصر ما تبصرون لكم رؤياكم ولي رؤياي".
 
"يوسف"، وكثيرون مثله لا يقوون على التعبير عمّا يعتمل في أنفسهم من أحاسيس ولكن بعض التصرّفات التي يؤتونها تكون مؤشرات عن أحاسيسهم، فاقتلاع عيون الألعاب ليس اعتباطيا، هو ينم عن خوف من نظرة الآخر، وبمعنى أعمق خوف من رؤية الآخر له ومن تعامله معه.
 
الصلة المنشودة 
 
ليس من السهل على أب غاب عن ابنه المتوحّد سبع سنوات أن يوجد صلة بينهما تمكّنهما من التواصل خاصة وأنّ "لطفي" كان يرفض فكرة التحاق ابنه بمركز لعلاج التوحد ذلك أنّه على يقين من أنّ ابنه طبيعي.
 
وبداية الانفراج كانت ملاحظة الأب أن ابنه يحبّ الأضواء الملوّنة ويتبعها بنظره، فكان أن زيّن غرفته بتلك الأضواء، واشترى كاميرا يوثّق فيها فيديوهات تظهر تحسّن حالة "يوسف" الذي أصبح يتفاعل مع والده، يضحك، يلمس يديه، ويطفئ الشمع، ويناديه "papa".
 
وللوصول إلى هذه المرحلة، كان لزاما على الأب أن يمرّ بأوقات عصيبة، مجاراة "عناد" الإبن، تحمّل عنفه في بعض الأحيان، البحث عنه طيلة ليلة كاملة بعد خروجه من المنزل.
 
المجتمع وتشكيل قوالب السكّر 
 
"أعمل كيفي"، "انت تحبوّ يطلع كيفك"، مفردات الأولى ردّدها "لطفي" وهو يطلب من ابنه أن ينفخ الشمع والثانية ردّدتها "خديجة" وهي تناقش "لطفي" بشأن مصير " يوسف"، قد تبدو المفردات بديهية، ولكنّ إذا تمعّنا فيها سنستشف أنّها تلخّص عقلية قوالب السكّر، التشابه حدّ التماهي في مجتمع ينبذ المختلف ولا يقبل الآخر.
 
هو مجتمع يحدّد مقاييس ومعايير يتوجّب على الأفراد أن لا يحيدوا عنها، وإن فعلوا فسيعرّضون لما تعرّض له "يوسف" في المركز التجاري حينما اخذه العامل إلى والده قائلا" تقربلك الطفلة" فقط لأن شعره طويل، من الوارد أنّ الأمر قد اختلط على العامل ولكن ردّ فعل "لطفي" لم تكن طبيعية، إذ اشترى قبعة ليتخفّى بها "يوسف" ويرضي مظهره المجتمع، وجدّة يوسف هي الأخرى طلبت من "لطفي" أن يقصّ شعره الطويل لأنه يشبه الفتيات إذا تركه على حاله.
 
وتلك اللقطة من الفيلم التي نزع فيها "لطفي" القرط من أذنيه حال وصوله إلى منزل والدته، دليل آخر على أنّ المجتمع يستهجن من هو مختلف، وأن بعض الأفراد خيّر "السكيزوفرانيا" على الدخول في صدام مكوّنات هذا المجتمع.

الكلمات البذيئة لم توجد عبثا 
 
ولأنّ الواقعية، تجسيد حقيقي لرؤية الموضوع أو الحدث أو الظاهرة أو الشخص على طبيعته، فإنّ بعض المشاهد تأبى الاصطناع أحيانا ولا تكون إلا كما أريد لها أن تكون بكل زخم الانفعال فيها، والانفعال يكون مرفوقا أحيانا ببعض الكلمات البذيئة.
 
هي كلمات بذيئة، قد لا يستسيغها البعض، ولكنّها وظّفت في محلّها في الفيلم ولم تكن مسقطة، هي كلمات بذيئة ولكنّها ليست أشدّ بذاءة من الواقع، واقع تغيب عنه ثقافة التعايش مع الآخر واحترام الاختلاف، واقع يأسر الأفراد في سجن العادات والتقاليد، واقع لا يؤمن بقدرة الأفراد على التغيير والتغيّر، ونهاية فيلم "في عينيّ" التي تعرض فيديو صوّره "يوسف" لوالده " لطفي"، دعوة للإيمان بقدرات الأطفال الذين يعانون التوحّد، وقابليّتهم للتغيّر إذا لامس الآخر قلوبهم وأرواحهم.
 
 
 
 

 

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.