4
يسرى الشيخاوي-
"لا شيء يحدث صدفة" يتردد صدى هذه الجملة في رأسي المثقل بأوجاع كورونا حتى يخيل الي ان أفواها تكسو جدران الغرفة وتلفظها كل حين..
وانا أغالب الصداع والغثيان وأبتسم للسقف، أضيء عتمة الحجر بنور أسناني التي غزتها بقع بيضاء لغياب الكالسيوم في جسدي..
تنهمر علي الأفكار ويحاصرني الهذيان أنى زارتني الحمى وحملت معها أطياف خيباتي وحماقاتي، وتئن وسادتي بما احتوت وتغدو العلاقات الباردة التي صادفتها مكعبات ثلج.
الصقيع يتسلل الى كل أطرافي وهمسات الموت تخترق أذني وانا ابتسم للعدم حتى علا صوت غليان الماء في وسادتي، هو دفء القلب يقارع برود الفناء..
أسبوع من العمر مر كأنه الدهر، ألوّح فيه للموت من بعيد وانا اسرق بعضا من ملامح "دادا" و" أمي" و"أختي"، كنت أراه في شحوب وجهي والهالات السوداء التي توشح عيني..
كنت ألمحه في شفتي المتشققتين حتى سرى الدم من بين ثناياهما، كنت أتحسس وقع خطى عزرائيل حينما ابحث عن توني وتكوني قدماي، كنت اراه في خوف المحيطين بي، خوف محفوف بالحرص على الا يؤذوا مشاعري
كنت اراه في الدمع الساكن في عيونهم وفي هدوئهم الذي ينهمر وجعا على حالي، كنت أراه في الاوراق التي تراودني لاخر عليها اخر كلماتي لكني لا أقوى على مسك القلم..
لم يكن للخطر ببالي أن أعراض التحسس من فصل الربيع التي تلزمني منذ الطفولة، سترميني في أحضان كورونا، كان العطس يشتد يوما بعد يوم..
لم يساورني الشك ولو لوهله أن جسدي آوى الفيروس اللعين فقد كنت شوية الحرص على التقاعد وعلى ارتداء الكمامات مهما كان المكان او الوضع.
ولكن يبدو ان العطس المتتالي ليس الا انذارا بزيارة غير مرغوب فيها..
والضحك انني حسبت الصداع المصاحب للعطس نوبة صداع نصفي "شقيقة"، نفس الوجع تقريبا ولكن صداع الكورونا لازمني أكثر من العادة حتى اكتشفت وانا في منزل صديقة أنني فقدت حاسة الشم حينما رأيت دخان سيجارتهاولم اتحسس رائحتها..
حينها أيقنت أنني مصابة بكورونا وأحسست أن شيئا ما انكسر داخلي وخفت حربا نفسية بلا أسلحة وسرى الخدر في كل جسدي وصرت ابحث في سجل علاقاتي عمن ظلمته أو سببت له الوجع لكي اغادر مرتاحة البال، في الواقع كل الآلام التي نسجتها وكل الظلم استنيت به
نفسي..
بين العطاس والسعال الحاد وحرارة غير مستقرة وانف خارج الخدمة أمضيت ليلتي وحيدة في الغرفة التي أتقاسمها وأختي، وفي الخارج صوت دعوات امي و"دادا" ينتشلني من الكوابيس…
ليلتها حلمت بأفاع كثيرة تحاول النيل مني ولكن أياد خفية تمنعها عني، كنت استشعر قرب الله مني وكنت استشعر رحمته في أنفاسي التي تقارع الفيروس..
في الطريق الى المختبر، كنت افكر في وجع التحليل ولكنني كنت أبحث عن شماعة اعلق عليها استسلامي وتسليمه بأن النهاية حلت..
المخبر في الطابق الثاني ولكن بظا الوصول اليه كأنني اعانق السماء قدماي لا تقويان على حمل كل هذا الياس الذي سرى في جسدي..
الكل مبتسم هناك، الابتسامات مبتسمة في العيون وان حجبتها الكمامات، لم يلقف انفي اية رائحة وكاد قلبي يقفز من بين ضلوعي وانا اجلس على كرسي انتظر رفع العينة..
الشاب الذي كلف بالمهمة لطيف جدا، دلني كيف اتخطى التجربة دون وجع، في الحقيقة لا مفر من الوجع ولكنني اقتنعت بكلماتك في تلك اللحظة، وبحركتين رشيقتين اخترق "الوتد" أنفي حتى استدر دمع عيني.
حينها حبست دمعي ولكن حينما عدت الى غرفتي اطلقت العنان للدموع السنين وفرجت عن كل تلك العبرات التي قطعت عليها الطريق..
إنها النهاية، اخبرتني وانا اراقب سيلان الدمع في المرآة قبل ان ابتسم ابتسامة مهمة وادس جسدي النحيل في فراشي المسجد بالورود..
فعلا لا شيء يحدث صدفة، ربما إصابتي بكورونا درس لكي أتوقف عن الاستخفاف بجسمي وقدرته على المقاومة..
في الواقع انا لا اتوهم، هو الطبيب أخبرني مرارا أنه يتوجب علي الحذر فمناعتي ضعيفة حظا ولن اقوى على تحمل الفيروس، ولكنه لا يعلم ان مناعة روحي أقوى..
فعلا لا شيء يحدث صدفة، فهذه التجربة عرت معادن الكثيرين من حولي، ومنحتني فسحة لبعيد ترتيب خطواتي واولوياتؤ وكشفت لي وجوها اخرى للمحيطين بي..
فعلا لا شيء بحدث صدفة، فالاسبوع الذي قضيته معلقة بين البقاء والفناء رسخ قناعتي بانني كائن يحيا بالحب والحلم وبأن الابتسامة دوائي الذي يقهر كل الاوبئة..