في اختتام أيام قرطاج السينمائية في السجون: دموع وغناء ورقص على سجّاد الإنسانية

 يسرى الشيخاوي- 

 

في أحيان كثيرة يبدو القدر شبيها بأرجوحة تهز مشاعرنا وأحاسيسنا حتّى تصاب بالدوار و تتداخل تعبيراتها، فوضى عارمة تجتاح كياننا ولا سبيل للسيطرة عليها فلا ابتسامة تجدي ولا دمعة، وكلّ اللغات خاوية على عروشها.

 

اجتياح تتمنّى معه لو أنّ عقارب الساعة تتوقف عن الدوران، حالة ذهنية تجعلك في مهب الحيرة فلا أنت قادر على الابتسام ولا انت قادر على البكاء، تراوح بين الأمل والألم وانت تتصفّح وجوه السجينات تبادلهم النظرات والابتسامات، تتلقّف رسائل تمرّرها أعينهن وتعجز الألسنة عن ترجمته.

 

ويحدث أن تبلغ الفوضى ذروتها فيتبيّن لك الخيط الأبيض من الأسود وتهزمك دموعك وتنهمر دون انقطاع وكأنّها تنتقم لأنك قطعت عليها الطريق لدقائق طويلات كالدهور، سيل من العبرات يجعلك تتساءل هل البكاء حالة ضعف ام حالة قوّة؟

 

وانت لن تقدر على مجاراة الانفعالات في قاعة عرض فيلم "فترية" لوليد الطايع داخل السجن، قاعة اجتمعت فيها سجينات تختلف أعمارهن وتجاربهن وقصصهن ولكنّهن يشتركن في السجن، هنّ مسلوبات الحرّية ولكنّهن متشبثات بالأمل، أمل ممزوج بعبرات أبت إلا ان تنهمر على وجناتهن.

 

في هذه القاعة، يكاد قلبك يقفز من مكانه وأنت تغالب دمعك وتحاول أن تتصنّع القوّة أمام النزيلات، تبحث عن منفذ للنور والهواء في القاعة وقد تعطّلت كل حواسك وسط فوضى الأحاسيس، تحاول عبثا أن تملأ رئتيك بالهواء وتختزنه، ويضيق صدرك بأنفاسك وتستنشق الوجع دفعات.

 

وأنت تفكّر في قصص السجينات وفي شعورهن بين الجدران تحاول أن تتناسى أنّك مسلوب الحرّية في تلك اللحظة، أنت لستَ حرّ فالعيون ترقبك وإن لا تبد ذلك علنا أو ربّما يتهيأ لك ذلك لأنك تماهيت مع وضع النساء من حولك.

 

وفي الأثناء تنبعث الموسيقى من الفضاء الشبيه بالخيمة، وتنساب أجساد السجينات للرقص متجاوزة الحواجز والأسوار، وينسيك وقع خطواتهن على الأرض صليل الباب الخارجي للسجن حينما أقفله السجّان بعد دخول ضيوف اختتام أيام قرطاج السينمائية في السجون بسجن النساء بمنوبة.

 

وفيما الموسيقى ترتفع لتجاوز سقف الخيمة، تؤنسها أصوات النزيلات، تصرخن وتردّدن كلمات أغان عن الحريّة وعن التغيير، أغان أغلبها " راب" تحفظت كلماتها وتردّدنها بانسجام كأنهن تتمرّدن على واقعهن ولا تتوقفن عن التمايل والهتاف.

 

وبين الرقص والغناء، تتمرّد دموع النزيلات ولكن أصواتهن لا تخفت وأجسادهن لا تسكت، دموع عزفت بها السجينات لحن وجع أو ربّما هو أمل بعيد حدّ البكاء، فتتسرب عدوة الدموع إلى كل من في القاعة، من صحفيين وممثثلين حاضرين عن فيلم فترية وممثلين عن هيئة أيام قرطاح السينمائية والمنظمة الوطنية لمناهضة التعذيب وأخصائيون نفسانيون.

 

حالة من البكاء الجماعي ممزوجة برقصات تهز الجوارح وتعرّي الجراح، الكل يبكي والكل يرقص، وتمتزج الدمعة بالابتسامة ويتزاوج التشاؤم بالتفاؤل وتتهافت الاسئلة على الأذهان باحثة في نصها الآخر عن معاني الحرية.

 

في ذروة الانفعالات تساوى الكل على سجّاد الإنسانية، وأطلقت الكوريغراف نادية السايجي العنان لجسدها يعبّر عن الوجع بل ينفض غباره، ترقص والدموع تنهمر من عينيها وكأنّها تسقي بتلك الدموع الفراغ المتعطّش إلى الحرية.

 

وغير بعيد عنها تكفكف الممثلة ريم الحمروني دمعها ويتعانق كفيّها وكأنّها تعلن ميلاد بداية جديدة، وترسم بين الحين والآخر ابتسامة تسدّ ثقوب الألم، وتهز برأسها مسايرة كلمات أغان تذرّ الملح على الجراح.

 

وفي هذه التجربة، تجربة مشاركة السجينات الرقص، الرقص بما هو فعل احتجاجي وتعبيرة على رفض الواقع بل وذاكرة حمّلة للوجع والفرح على جدّ سواء، كشفت ريم الحمروني ونادية السايجي عن جانب إنساني عاطفي بعيدا عن التكلّف والتصنّع، فقد يكون من السهل أن تكون فنانا ولكن ليس من السهل أن تكون إنسانا، وحركات الفنانتين وسكناتهما ودموعهم وأنفاسهما المتقطعة أثبتت ذلك. 

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.