3
يسرى الشيخاوي-
في سنتي الثانية بالمعهد الثانوي قدت مسيرة تلمذية تنديدا بالعدوان الغاشم على قطاع غزة عام ثمانية وألفين.. يومها كانت حماستي أعظم من جسدي النحيل حتى أني لا أعلم إلى اليوم كيف صدر مني ذلك الصوت المزلزل مرددا "غزة غزة رمز العزة"..
لم تثننا المطر عن مواصلة المسيرة بل إن قطراتها نزلت بردا على أرواحنا الحانقة.. جبنا أرجاء قريتي المنسية حتى بلغنا تخوم منجم الجريصة الذي امتص الفرنسيون ثرواته فهتفت الحناجر " لا للاحتلال" ثم عدنا إلى محيط المعهد فوجدنا بوليس بن علي في انتظارنا..
لاحقتنا سيارات الأمن وسدت علينا كل المنافذ.. ارتبكنا لكن أيادينا الصغيرة ظلت متشابكة.. لم نصمد طويلا أمام سيارات "الأمن" الرعناء التي اندست بيننا غير عابئة بأجسادنا الصغيرة.. انفرط رباط أيادينا لكننا واصلنا الهتاف..
لم أعد أبالي حينها بالمكان ولا بالزمان وفقدت القدرة على استيعاب الأشياء من حولي ولم أعد أتقن شيئا عدا الصراخ.. كنت أضع شالا أسود على رأسي لأتقي به البرد يبدو انّه لم يرق عون أمن تقدم نحوي يرفس الوحل كبغل جامح..غرز أصابعه في رقبتي واستل الشال حتى كاد يقتلع رأسي..
لم أع حينها المغزى من حركته ولكني واصلت الهتاف حتى هوى على وجهي بصفعة هي الأولى في حياتي وأرفقها بعبارة "سكّر فمّك" ارتطم رأسي حينها على سيارة أمنية كانت رابضة بجانبي وسال الدم من جبيني واختلط بالوحل.. مررت أصابعي على وجهي فتحسست أثار أصابعه على وجهي..
لم أبك حينها ولكني صرخت في وجهه "غزة غزة رمز العزة".. جرّني من معطفي وحشرني في السيارة التي سبقني إليها عدد من الأتراب.. أمضيت يومها ساعات في مركز الشرطة.. يومها تجمع حولي ستة ضباع ينهشون عقلي.. يسألون عن انتمائي وعلاقاتي وسر الشال الأسود..
لم أستوعب ما يحصل حولي ولم أنطق بحرف حتى وصل جدي وصديقه المعتمد وخلوا سبيلي بتزكية من السيد المسؤول.. من يومها ولمدة أسبوعبن رابضت سيارة الامن في زقاق منزلنا ترصد خطواتي وتتبعني حيثما ولّيت وجهي..
وإلى اليوم مازال نصف وجهي الأيمن يؤلمني كلما رأيت "بوليسا".. مازلت كلما دخلت مركزا للأمن لاستخراج وثيقة أرتبك وتترقرق الدموع في عيني ويختنق صوتي ويكبر فيّ حب فلسطين..
هي الأحداث التي تتواتر في القدس أثارت ذاكرتي لأستحضر صفعتي الأولى، هي مقاومة حي الشيخ جراح وصرخات المقدسيين ودموع الرجاء والابتسامات المعلقة إلى حين أحيت الكثير من المشاعر المتناقضة..
ووسط الشعور بالعجز يسرب المقدسيون الحماسة والإصرار إلى كل العالم، ليصرخ الأثير " فلسطين واحدة لا تتجزأ والقدس عربية"، وأما من يرى في التطبيع وجهة نظر فلا صوت له وسط أنفاس المقاومين دائما وأبدا..