فــن الـتأهيل للـتطبـيع

تُدار السلطة وفق أهواء الحاكم لا المحكوم .. ويتفنن الحاكم، حتى لو كان مكرها، في انتهاج سياسات تضمن له البقاء في الحكم، فلا حاكم يستقيل إذا فشل، أغلبهم يطبعون مع الإكراهات ويتبنونها.

وفي تونس اليوم ،من يحتكر الحق في العيش الكريم؟ من يصادر كرامة التونسيين؟ دولة عاجزة أم معارضة تصنع الأزمات لاجهاض الشرعية الشعبية للرئيس ؟ أم أن واقع البلاد اليوم أبعد من ذلك وتحركه استراتيجية اقتصادية سرية تمهّد لاتخاذ اجراءات تزيد من تفقير الشعب وإضعاف العقول.

كل الاحتمالات واردة، ولا شيء ثابت ينزع الغموض عن أزمة فقدان الكثير من مرافق الحياة في تونس، ولا حقيقة مؤكدة تصدع بالحق وتعري الحقائق المتعلقة بمحتكري الحق في العيش الكريم، السلطة تتهم المعارضة ومن يتعاونون معها، والاتحاد يطلق النار على الحكومة ويراها سببا في الأزمة، والشعب يستتغيث، لكنه يدخل تدريجيا نفق التعوّد على الاجحاف والتجويع.

أكثر من أي وقت مضى، اغتصب اليأس عقول التونسيين وأرهب أرباب العائلات بعد فقدانهم أهم مرافق الحياة اليومية من غذاء وتنقل وصحة وتعليم دون بروز أي مؤشر ينذر بالسير نحو الأفضل أو نحو الانفراج، ففي تونس اليوم أُحكترت الحياة الكريمة وسُلبت من التونسيين أمالهم في التمتع بالحريات والديمقراطية وبات الغذاء والصحة والتربية والطاقة حلما منشودا.

"يجري على الخبزة"، مثل شعبي تونسي ضارب في القدم، لا يفهمه إلا التونسيون، بات يتطابق اليوم وواقع أفراد شعب بلادنا، وأصبح واقعا مفروضا وليس مجرد صورة تقريبية أو تعبيرا مجازيا، فلا أحد يمكنه في تونس أن يوفر حاجياته دون لهث أوركض من أجلها ،وأصبحنا نتعايش مع صورة تسابق التونسيين أمام المخابز ويصطفون أمام المغازات العامة ومحطات الوقود لنيل القليل من حقهم في الحياة.

الصورة واضحة، شح كبير في المواد الأساسية والطاقية والحياتية اليومية، لكن من المسؤول عن رسم تفاصيل هذه الصورة؟ هل الأزمة مفتعلة من طرف معارضي السلطة الذين يراهم رئيس الجمهورية سببا في احتكار الكثير من السلع لتجويع الشعب وخلق مناخ اجتماعي متوتر ذو قدرة على الانتفاضة على السلطة ومن يترأسها؟ هل تخبؤ الدولة المواد الأساسية والسلع لترتفع أسعارها ويتعود المواطن على غلاء الأسعار ويقبل إجراء رفع الدعم عن هذه المواد؟

 حقا !!  هل هي مرحلة فرض التطبيع مع الأسعار المرتفعة والتأهيل النفسي والاجتماعي لرفع الدعم عن المواد الأساسية والمحروقات؟ وهذا الطرح يراه الاتحاد العام التونسي كونه السبب المركزي في غياب الكثير من المواد عن السوق خلال الأشهر الأخيرة سيما مع تمسك صندوق النقد الدولي بضرورة تطبيق الحكومة التونسية لبرنامج اصلاحات اقتصادية وعلى رأسها رفع الدعم كشرط رئيسي لمنح تونس تمويلات.

ولا تبدو رؤية الاتحاد العام التونسي للشغل لأسباب شح المواد الأساسية بعيدة عن الواقع، بل هي الواقع، فلم تعد المواد المدعمة من سكر وزيت متوفرة بالأسواق، وتعوّد المواطن تدريجيا على استهلاك هذه المواد بأسعار حرة ومهما كان ثمنها بعد أن استبد به التوجس من فقدانها وشحها في كل فترة.

الدربة والتعوّد هي أسس الاستراتيجية الحكومية لرفع الدعم عن السلع، تدرب المواطن على غياب السلع وتعوّده على قبول أسعارها المرتفعة، لتمتص قليلا من اعتراضه على الأسعار المرتفعة وتفسح المجال لنفسها لإقرار رفع الدعم وتطبيق التطبيع الاجتماعي مع الأسعار الغالية.

ربما نجحت الحكومة نسبيا في فرض التطبيع الفكري مع الأسعار المرتفعة، ولم يعد المستهلك يبحث عن الأسعار المنخفضة بقدر ما يبحث عن وجود المواد الأساسية والمحروقات مهما كانت أثمانها، وتحول الهاجس من الأسعار المرتفعة إلى وجود السلع، وسترفع، مكرهة، الدعم على المواد الأساسية والطاقة حتى تنال رضاء المؤسسات المالية المانحة.

هي فعلا مرحلة التطبيع، مرحلة يطبع فيها التونسيون مع غلاء الأسعار تجسيدا لإرادة صندوق النقد الدولي وهو نتيجة حتمية لدولة باتت فاقدة لأمنها القومي الغذائي، دولة تستهلك ولا تنتج، دولة تستود ولا تصدّر، غذائها رهين تقلبات دولية وسلطتها فاقدة للحكم الذاتي.

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.