“فرحة” دارين سلّام.. زمن النكبة من زاوية أخرى

يسرى الشيخاوي- جدّة/ السعودية


فتيات تزين الابتسامات وجوههن المشرقة، يتراشقن بقطرات المياه وتتناثر قهقهاتهن لترتطم بصفحات رواية تهرب إليها فتاة تبوّأت مكانا بعيدا عن قريناتها. 
فتاة تتقد عيناها حماسة وتتوشح تعبيرات وجهها بالأمل والبراءة، اسمها "فرحة" ولا أحد بإمكانه الجزم إن كان لها من اسمها نصيب أو لا، ولكن الأكيد أن هذا الإسم صار عنوانا لفيلم يروي زمن النكبة من زاوية أخرى.
"فرحة" الفيلم الروائي الاول للمخرجة الأردنية من أصول فلسطينية دارين سلّام، فيلم مشحون بالمشاعر تقحمك تفاصيله في دوامة من الوجع وأنت تواجه قصة مستوحاة من الواقع.
على إيقاع طفولة مترامية في قرية فلسطينية بهيّة، تتشكّل ملامح السيناريو الذي يتدفّق بنسق لا تستشعر معه الملل، لكن في المقابل يتعمّق داخلك إحساس القهر والخيبة.
هي قصّة حقيقية، سمعتها دارين سلام من والدتها وكبرت وهي تكتب أحداثها في ذهنها، وكلما تعتّقت التفاصيل في مخيلتها ازداد داخلها الخوف من الأماكن المغلقة والمظلمة.
ملحمة عايشتها "رضيّة" الفتاة الفلسطينية التي واراها والدها في غرفة مظلمة كي لا يطال جنود الاحتلال جسدها ويغتصبوه كما اغتصبوا الأرض، ملحمة استبطنتها المخرجة وصاحبة فكرة السيناريو ونفخت فيها من تجربتها وروحها وصفاتها.
وعلى عكس "رضية" التي كانت مخطوبة، بدا لـ"فرحة" مسار آخر مختلف يحمل الكثير من شخصية المخرجة، فآوت داخلها براءة الطفولة وشقاوتها وكثيرا من التمرّد والبحث عن التغيير.
فالفتاة القروية التي تعيش في مجتمع ذكوري لم تئد رغبتها في مواصلة تعليمها وتشبثت بحلمها وحينما لان والدها واقترب الحلم من عتبات الحقيقة، امتدت يد الاحتلال لتسرق فرحة تمتد من الذات إلى الوطن.
هو الاستعمار، يدمر كل جميل دون إيذان ويصوب رصاصاتها إلى كل فرحة ويستدر الدموع والدماء ويزرع الوجع في كل الزوايا والأركان لكنه يحاول عبثا أن يطمس الذاكرة.
وفيلم "فرحة" ليس الا استنطاقا للذاكرة برؤية اخرى، ودعوة إلى التفكر في أحداث النكبة وفيما خلفته من وجع ورسالة مفادها أن الشتات لا يلتئم بالتقادم وان السنين لا تخفي آثار ندبات التهجير قسرا، وأن كل التغييرات التي أتت منها والتي ستأتي مستقبلا لن تحجب أثر الدماء ولن تداوي الأرواح المشرّدة.
وأنت تلاحق الأحداث المستلهمة من الواقع  والموغلة في تفاصيل التاريخ، يتلبس عليك  الأمر في بعض المشاهد ويبدو لك الفيلم وثائقيا تسجيليا مغرقا في الصدق، خاصة وان المخرجة وفريق الإنتاج (ديما عزّار وآية جردانه) لم يتركوا أي شيء للصدفة.
والمتأمل في الأزياء والديكور واللهجة وكل العناصر المكونة للفيلم، سيلاحظ ان الثلاثي ديما وآية ودارين كن أمينات على التاريخ وموغلات في الدقة التي جعلت مشاهدة الفيلم أشبه بسفر في الذاكرة.
وإن كان الفيلم على عكس عنوانه يحمل الكثير من الوجع والحزن في تفاصيله لا سيما مشاهد الهروب في كل الاتجاهات على وقع القصف، ليختلط صوت المدافع بالعويل والصراخ وهمسات الوداع الأخير، فإن كاميرا المخرجة أظهرت جمال القرى الفلسطينية وجمال المرأة الفلسطينية وجمال العادات والأغنيات التي لا تهاب صوت المدافع.
ما جعل مشاهد الهروب تبدو واقعية جدا، حضور لاجئين فلسطينيين بالأردن في الفيلم ولا احد بإمكانه أن يصف المشهد كما فعلوا وهم يعيدون صياغة التاريخ عبر السينما.
على وقع النكبة، يغدو الحلم كابوسا، وتنتقل كل الأحداث بما تحويه من جمالية أو قبح إلى ركن مظلم جدا ينبعث داخله نور مصباح لكنه لا يقوى على مقاومة السواد عكس عيني "فرحة" اللتان وان خفتا فيهما بريق الحماسة إلا انها ظلتا تتقدان في رحلة الخلاص.
كل شيء انهار من حولها ولا صوت يعلو على صوت القصف في قريتها، ووالدها الذي وعدها بالعودة بعد أن أوصد الباب من خلفه تلاشى كما تلاشت أحلام كثيرة، وهي وحيدة تبحث عن منفذ.
ومع تواصل المشهد في الفضاء المغلق المظلم، تتساءل عن مدى قدرة المخرجة على مجاراة هذه الوضعية التي لا تأخذ حيزا زمنيا كبيرا لتأتي الإجابة على دفعات لتفاجئك دارين سلام في كل مرة بعنصر جديد يكسر سيرورة العتمة.
فيما "فرحة" تبحث عن سبيل للنجاة، تتواتر الأحداث لتنتقل الكاميرا في فضاءات خارجية تطالع فيها الأعين ألوانا أخرى من المقاومة ومن الخيانة أيضا.
وعلى نسق هذه المراوحة بين داخل الغرفة المغلقة وخارجها، تتهاطل  عليك الاسئلة وانت تحاول أن تستوعب كيف لشخص يشجع فعل الكثير من اجل أن تحقق "فرحة" حلمها في الدراسة أن يكون سببا في كل الخراب الذي طال روحها.
وأنت قطعا لن تجد إجابات مقنعة لما حصل، وهو ما تعيه المخرجة، التي تحوّل زاوية النظر إلى حكاية أخرى ترشح مقاومة نسجت ملامحها من مشهد ولادة صرخ فيه الوليد صرخته الأولى حذو قذيفة، لتراقص المخرجة خيوط الأمل في أكثر من تفصيل.
طيلة بقائها في الغرفة، لن يعنيك عدد الأيام التي أمضتها هناك بقدر انغماسك في التفكير في طريقة الخلاص ومع كل صوت يصدر من الخارج تبتسم ظنا بأن الكابوس انجلى ولكنك تعود إلى نفس حالة التجهم لتيقن في النهاية إلى أن المخرجة دارين سلام لا تريد لأحد ان يساعد "فرحة" لان لا أحد غيرها سينهي الأمر.
طفلة دخلت إلى الغرفة المظلمة لتخرج إمرأة بكي رحمها لوجعها وتوشح فستانها الوردي بقطرات دم حملتها معها وهي تولي وجهها شطر أرجوحة تؤوي ذكرياتها مع صديقة  روحها "فريدة"، حيث عانقت أسنانها التين مرة اخرى وصرخت نظراتها بأنها ستبقى "فرحة" وإن جردوها من كل أحلامها، تماما كما فلسطين.
وفي "فرحة" كان الصدق القاسم المشترك بين كل العناصر المكونة ومنها أداء الممثلين الذين أجادت دارين سلام اختيارهم فبدوا كأنهم قادمين من زمن النكبة بملابسهم التي تحمل بهاء الماضي الجميل ولهجتهم التي تحمل في طياتها رائحة تراب فلسطين .
الممثلون والممثلات، كرم الطاهر وأشرف برهوم وعلي سليمان وتالا قموه وسميرة الأسير ومجد عيد وفراس الطيبة وسامويل كاتسوروزكي وسلطان الخيل وبتول ابراهيم، كل منهم أعطى للدور من روحه واعتنى بأدق التفاصيل وإن اختلفت مساحة الأدوار.
لكل ممثل وممثلة في الفيلم بصمة لافتة تكشف قدرة المخرجة دارين سلام على إدارة الممثل واستنطاق جوانب خفية داخله، ولكن تبقى الممثلة كرم طاهر اكتشاف الفيلم إذ انها تواجه الكاميرا للمرة الأولى.
هي مغامرة خاضتها المخرجة باختيارها لكرم ولكنها في النهاية أفضت إلى أداء تعالى له تصفيق الجمهور في العرض العالمي الأول للفيلم غذ تقمصت كرم فرح الشخصية دون مبالغة في الأداء ولا تعقيدات، هي فقط طوعت كل الاحاسيس الكامنة داخلها كأنثى لترسم ملامح الملحمة في عينيها.
 

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.