عندما يمرّ “مسافرو الحرب” على مشاعرك الدفينة.. فاعلم أنه مبعث الحياة إلى روحك من جديد

 أمل الصامت –

مشاهد سينمائية قد تختلف البيئة التي صوّرت فيها عن بيئتك، البلد والأوضاع فيها مختلفة، شكل المؤدين فيها لا يشبه الشكل المألوف لديك، إلا أن الرسائل الموجهة قد توقظ في داخلك مشاعر وأحاسيس دفينة وربما مكبوتة أو لعلك لم تحاول يوما ملامستها حتى تأتيك تلك الصور.

فمثلا لا مشاهد الدمار في الفيلم السوري "مسافرو الحرب" الذي عرف أول عروضه مساء الاربعاء 7 نوفمبر 2018، بقاعة الكوليزاي بالعاصمة في إطار المسابقة الرسمية لأيام قرطاج السينمائية، شبيهة بما هي عليه تونس من عمار، ولا الصور التي ظهر فيها الأبطال والممثلون تعكس صور الأوضاع التي عاشتها الخضراء ما بعد الثورة حتى في أشدّ الفترات، ولكنها تكاد تكون مرآة لوضع اجتماعي وسياسي يُراد له أن يُطمس بنوع من الزينة المزيفة لما يسمى بالانتقال الديمقراطي والانجازات المزعومة.

110 دقيقة تغوص بك في عمق نكبة المدن و"الضيع" السورية التي حتى التاريخ فيها تكاد تمّحي آثاره وقد أصبحت المعالم الأثرية حطاما وأكداسا من الحجر المكوّم، بطريقة حاول فيها المخرج جود سعيد عدم إظهار الاصطفاف السياسي وراء أي طرف مقابل الآخر أكثر ما يمكن حتى وإن قٌرأ الميل للنظام القائم بين السطور. وفي ذروة الألم يباغتك الأمل ويتفتّح للابتسام دربُُ إلى شفتيك قبل أن تعلو الضحكات، ويصبح الأمر شبيها بالجنون القائم على التناقض بين إحساس وآخر في نفس الوقت.

مزيج من دمعة وابتسامة، ألم وأمل، حرب وسلم، لا هوية وجذور، كراهية وحبّ، هذا قوّاد وذلك وفيّ، طرف اسغلالي وآخر خدوم، صور للقبح تقابلها آخرى للجمال، دنس وعفّة، عتمة ونور، دمار وعمار… كلّ ذلك لا يستطيع أن يكون اعتباطيا لا في رسالته عن الوضع في سوريا أو غيرها من المناطق المعلنة فيها الحرب رسميا، ولا في تلميحها عن الحقيقة في دول أخرى عربية وإفريقية الحروب فيها "ضمائر مستترة".

المشهد الأول من الشريط السينمائي الطويل "مسافرو الحرب" صوّر طابورا من قاطني حيّ في مدينة حلب سعيا وراء لترات من الماء، الماء الذي هو منبع الحياة فمنه يتحوّل اليابس إلى أخضر، يليه مشهد للبطل "بهاء"، الذي جسّد دوره الفنان أيمن زيدان، وهو يغتسل ليتحوّل الماء وسيلة للطهر والنقاء، ثم يشكّل في مشاهد أخرى وسط الفيلم مصدرا للاستمرار ومقاومة الموت بالحياة، وإن كان الموت الذي ختم رحلة "بهاء" في مواجهة الحرب مصيرا لا مفرّ منه للبشرية جمعاء، على أن تعيش ما قدّر من نصيبها في الحياة بأمل وإصرار.

"بهاء" الذي أصرّ طوال الرحلة أن ينقل لابنته المقيمة مع زوجها في ألمانيا صورة مشرقة كلها تفاؤل عن حياته التي يسعى إلى بلوغها في ضيعة أبيه وأجداده، وقاوم كل عبارات التشاؤم وذكريات موتى "فراس" رفيقه في رحلة السفر وسط القذائف والاشتباكات، انتهت حياته جالسا على مكتبه بين كتبه وقصصه، التي غزل منها أجمل حلم حاك حكاية الفيلم في مجملها، في بيته القديم أمام ناظري ابنته التي كانت تتفقد أحواله باعتماد محادثة فيديو على الانترنت.

المسافرون في هذه الحرب شخصيات مختلفة شكلا ومضمونا عن بعضها البعض، ربّما حتى أهدافها في رحلة القصة والتي تمثّل الحياة في الحقيقة مختلفة، ففراس، بطل الفيلم الثاني، شخص وحيد بلا سند جعلته الرحلة محاطا بعائلة وفي مواجهة حبّ عليه أن يتعلّم كيف يعبّر عنه لمن خطفت روحه من النظرة الأولى، ولكنه لم يتجرّأ على مصارحتها بما يكمن في قلبه من مشاعر إلا بعد انتهاء الحرب التي أعلنها بنفسه في نفس الوقت الذي أعلن فيه حبّه.

"فراس" الذي كلما ترحم على أحد امواته عبر الشاشة الفضية انفجر جمهور الكوليزاي بالضحك، كان الشريك الأول لحلم "بهاء" في إعادة الإعمار والانطلاق من حيث انتهت الحرب الذي هو على قناعة أنها لا تعود إلى مكان مرّت عليه وأنه لا يشارك فيها غير المجانين وأن مواصلة الحياة هدف لا بدّ أن يتجذّر داخلنا سواء بها أو دونها، لأن الموت سواء سببته الحرب أو لا، آت لا محالة.

رسائل وانعكاسات كثيرة أخرى قد تصلك عبر رحلة "مسافرو الحرب"، لعل أبرزها صورة الانسان بكل الاختلاف الذي قد تعكسه والتناقضات التي تتضمنها، ففيها تجد المرأة الضعيفة والفتاة المنحرفة والأخرى المستغلّة والسيدة المسؤولة والطفلة المكسورة، كما تجد الرّجل الشهم والوسيم القوّاد والشاب الطيب والطفل الباحث عن الأمل.

وهذا هو الانسان لكل طريقته في العيش ولكل وسائله في رحلة الحياة التي لا يوقفها سوى الموت مرة واحدة وإلى الأبد.. لذلك تعالوا نعيشها بالأمل والحبّ والجمال بعيدا عن الألم والكره والقبح، كما أراد أن يعلّمنا "مسافرو الحرب".

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.